عندما أطرق أبواب أدب الفقر والفقراء، أشعر بأنه لزاماً علي أن أطرح شذرات من أعمال روائية لروائيين عاشوا أو اقتربوا من الشارع بأدب خاص به. ولا أجد أدبياً أبدع في هذا الحقل الروائي كما فعل الأديب الإنكليزي جورج أورويل، وبالذات في فترته اليسارية الزاخرة، التي قدم فيها لوحات عجيبة لما لحق بالإنسان البسيط من ظلم فادح. ففي روايته المعضلة «متشرداً بين باريسولندن»، التي عكست يسارية لا حدود لها، عشنا أحداث الرواية بين قطبي الحداثة والثورة، بين باريسولندن، أراد أورويل أن يخصص في روايته معاناة غاسل صحون يعمل في مطبخ تحت الأرض تبلغ فيه درجة الحرارة 110 فهرنهايت. ولم يكن اختياره لهاتين المدينتين اعتباطياً، فقد ارتبطتا عبر ذاكرة مكانية وزمانية في وجدان الشعب الإنكليزي، استطاع من خلالهما أن يصور لنا أورويل بدقة فائقة سيكولوجية المتشرد والغوص في معاناته عبر التنقل بين أزقة لندن البائسة وشوارع باريس الخلفية المنتنة، لفرد عاش نمط حياة رهيب متنقلاً بين المطاعم والفنادق للعمل كغاسل صحون أو مشرف مرحاض. وفي روايته الأخرى «الطريق إلى رصيف ويغان» يصف المترجم رواية أورويل قائلاً: حمل أورويل قلمه وأوراقه وذهب إلى بلدة ويغان حيث المعامل ومناجم الفحم، وسكن في بيت للإيجار مع أربعة عمال وأصحاب البيت، نزل إلى أعماق المناجم ليكتب بصدق عن تجربة، عما يكابده العمال من مصاعب وأخطار في مشهد جحيمي بحرارته وسواده وتلوث هوائه إضافة إلى خطورة الانهيارات وانفجارات الغاز، كما يصف بؤس البيوت التي تسكنها الطبقة العاملة التي لا تقي من مطر الشتاء وبرده، ويتحدث عن الدخل القليل للعامل الذي لا يكفيه لسد رمقه. والاتجاه المعاكس لأدب أورويل، وجدناه حاضراً في أدب غازي القصيبي، إنه الأدب المغترب عن الأوطان، أدب الرفاهية والطبقة المخملية، فقد كانت للقصيبي تجربة فريدة مع الإدارة والعمل القيادي، عايش من خلالها هموم الناس، قضى جل حياته متنقلاً بين الوزارات الواحدة تلو الأخرى كما ينتقل أحدنا بين مجالس وغرف منزله، كان قريباً من قضايا الناس في واقعه، ولكنه فضل أن يعيش مرتحلاً بخياله بعيداً عن الناس، الذين شاركهم الواقع بحلوه ومره. في باكورة أعماله الروائية «شقة الحرية» ها هو ينتقل مع أبطال روايته «البحرينيين» إلى أرض الكنانة مصر، عشنا معهم هموم القومية والماركسية والبعث والوجودية والتي لم يكن لأي منهم نصيب الأسد في واقع وحقيقة الناس الذين عاش معهم في رحلاته المكوكية بين الوزارات. بين ثنايا «شقة الحرية» تجسدت لنا شخصية جمال عبدالناصر بصورة البطل الملهم، في لوحة كانت مدينة القاهرة بكل ما يعتمل فيها من آمال وطموحات ونقاشات بين النخبة المثقفة، هي الخلفية المحورية للأحداث، وكأننا نجلس على كرسي متنحي في صالون عباس العقاد أو نستمع بدهشة لخيالات أنيس منصور حول الأشباح. في أبرز أعماله الروائية وأهمها، يأخذنا أبا يارا، نحو جبال لبنان، ليدخلنا العصفورية، لنعيش مع المجانين، ونأخذ الحكمة من أفواه المجانين، كانت الرواية عبارة عن حوار بين طبيب نفسي لبناني ومريضه المجهول الهوية «المجنون»، هي ليست برواية ولا تحمل مقومات الرواية وأسسها، أو هكذا استوحيت منها، تنوعت فيها الحوارات بين الطبيب ومريضه، تناقشوا حول طه حسين ونجيب محفوظ، وأسهبوا في تحليل شخصية الخليفة العباسي المأمون، وصفوا لنا مدينة لندن أبلغ توصيف، شجبوا واستنكروا الروايات الروسية المليئة بالتفاصيل، عدنا أدراجنا للوراء للحقب القديمة والأزمان الغابرة، مع كفريات ابن الراوندي وهرطقات بشار الأعمى وشعوبيات أبونواس الزنديق وشكوكيات أبي العلاء المعري، وكان الجزء الأكبر من الكعكة للشاعر المفضل لدى أبا يارا وهو أبوالطيب المتنبي وصديقه العزيز سيف الدولة الحمداني، رسموا صورة هزلية ساخرة لعربستان، عربستان الشامخة الأبية التي لم يكن فيها موطئ قدم لذاك المراجع المهموم الذي قضى سويعات عمره متردداً في محاولة بائسة لمقابلة الوزير. طرقوا كل باب، وزاروا كل مدينة، وهجوا كل أديب وشاعر، لكنهم لم يطرقوا باب مدينتنا، ولم يناقشوا قضايانا والتي بلا شك كانت ذات يوم مطروحة على طاولة الوزير غازي القصيبي. وفي روايته الإنثروبيولوجية التي حملت عنوان «الجنية» فضل أبا يارا أن يهمش الجنيات المحليات، فاختار شخصية «عيشة قنديشة» أسطورة الرعب المغربية بطلة لروايته، وقد استلهمها من الأسطورة الأكثر شيوعاً في المخيال المغربي، عن امرأة حسناء تدعى عيشة قنديشة تخفي خلف ملابسها رجلين تشبه قوائم البغل أو الجمل، وتقوم بفتنة الرجال بجمالها وتستدرجهم إلى وكرها لتمارس الجنس معهم وبعد ذلك تقتلهم بطريقة وحشية. فصاغ هذه الأسطورة المغربية في قالب أدبي ساخر، دارت أحداثه الروائية في الأغلب بين المغرب والولايات المتحدة الأميركية، وكالعادة بعيداً عن أرض الوطن، كما اختار مدينة لندن مسرحاً لأحداث روايته الأخرى «سبعة»، كما كانت دولة النهروان (العراق)، مسرحاً لأحداث روايته «سعادة السفير» والشخصية المحورية يوسف الفلكي سفير دولة الكوت (الكويت). وفي رواية «أبو شلاخ البرمائي» كانت فكرة الرواية تكراراً لفكرة رواية «العصفورية»، فكانت الرواية ليست سوى حوار بين شخصين أحدهما أبو شلاخ كثير الكذب، وجزء صغير من الرواية حمل مصالحة بين أبي يارا وبين حدود الوطن، حيث عاد بنا لحقبة اكتشاف النفط في الجزيرة العربية، انعكست فيها صور الاضطهاد والمأساة التي تسبب بها المسؤول الأجنبي والذي تعامل مع سكانها (العربان)، كما وصفهم أبو شلاخ، بصفتهم مخلوقات بدائية لا تستحق الشفقة والرحمة، وهي بطبيعة الحال لم تأتِ بجديد، بما تم ذكره في رواية «التيه» للأديب العربي الكبير عبدالرحمن منيف الذي صور أزمة سكان الجزيرة العربية مع المسؤول الأجنبي في زمن اكتشاف النفط بجدية أكبر ورؤية أعمق. وبما أن حبيبنا المصطفى قد وصى بسابع جار، لم ينسِ أبا يارا جارته الجميلة، ليست جارته المحلية طبعاً، بل جارته الأجنبية، جارته في لندن، الأميرة الجميلة ديانا والتي خصص لها كتاباً يحمل عنوان «الأسطورة» تكلم فيه بشيء من الصدق وكثير من التعاطف، في تكريس واضح لأدب الرفاهية والأرستقراطية الكتابية الخارجة عن الحدود النائية عن الأوطان. عاش معنا أبا يارا على أرض الواقع ولكنه هجرنا في فضاء الخيال، تنقل بين الوزارات والسفارات، ونعمت كل وزارة ودائرة حكومية ببركات لمسته اليسوعية، الكفيلة بتصحيح الأخطاء وعلاج المشكلات، ولكن لمسته اليسوعية فقدناها في مخيلته الرائعة ورواياته اللماحة الذكية المضمخة بروائح الأرستقراطية والمفعمة بعبير الرفاهية والتي جعلتني أصدق عبارة أبو شلاخ البرمائي الساخرة: غنى الأغنياء سببه غباء الفقراء. * كاتب سعودي.