تخرج في كلية العلوم في جامعة الإسكندرية قبل عامين. كلل هذا التخرج 16 سنةً من التفوق الذي أجمع أساتذته على أنه يرقى إلى درجة العبقرية. فهو لم يكن طالباً متفوقاً فقط، بل كان عبقرياً يمتلك طاقات إبداعية غير عادية في مجال البحث العلمي. الغالبية العظمى من تلك الأفكار يصنفها الخبراء بأنها قادرة على تحويل التراب إلى ذهب في حال خرجت من مرحلة البحث في المختبرات إلى مرحلة التنفيذ في المصانع والشركات. المشكلة هي أن الطرفين يتحدثان لغتين شديدتي التباين ولا تجمع بينهما سوى مفردات قليلة يكاد لا يتنبه أحد إليها أصلاً. لكن الأسبوع الماضي شهد خطوة أولى نحو تقارب الجهتين من أجل مصلحة الجميع. جسر حقيقي وضعت لبنته الأولى في الجامعة الأميركية في القاهرة قبل أيام من أجل سد الهوة بين الأكاديمية والصناعة، أو بمعنى آخر بين الجامعات وقاعات البحث والدرس من جهة وبين مجال البيزنيس والصناعة من جهة أخرى. وبما أن المصلحة متبادلة بين الطرفين، فإن مقومات النجاح تبدو شبه مضمونة. الجسر الجديد اسمه «مكاتب نقل التكنولوجيا» في أربع جامعات في مصر هي الجامعة الأميركية في القاهرة، وجامعات الإسكندرية وحلوان وأسيوط، وذلك تحت إشراف الأولى. الفكرة كما يشرحها عميد كليات العلوم والهندسة الدكتور مدحت هارون هي أنه مع تنامي حماية حقوق الملكية الفكرية، بدأت أعداد متزايدة من مؤسسات وشركات الأعمال تأسيس مكاتب لنقل التكنولوجيا داخل الجامعات، وذلك للمساعدة في النقل القانوني للتكنولوجيا. ويوضح: «ولأن مثل هذه المكاتب قد تستغرق سنوات قبل أن تبدأ جني ثمار مادية من عمليات النقل تلك، كان ينبغي أن تعمل بأعلى كفاءة ممكنة. الغاية من هذا المشروع هي وضع أسس عملية لنقل التكنولوجيا في مصر وبناء جسر متين بين الجامعة والصناعة». أحدى دعائم هذا الجسر هي أن يكتسب الطالب القدرات التي تؤهله لأن يكون ضليعاً بشؤون عالم الأعمال، وهو ما لم يكن موجوداً من قبل. لكن هناك الكثير من الجدل داخل الجامعات، لا سيما تلك ذات الطابع العلمي، في إمكان تعليم طلابها مهارات عالم الأعمال، باعتبار عالمي العلم والأعمال منفصلين، وهو ما ينفيه العميد المشارك لكليات العلوم والهندسة في الجامعة الأميركية في القاهرة الدكتور حسن عزازي، فيقول: «مهارات الأعمال يمكن أن يتعلمها الطالب خلال دراسته الجامعية في كل أرجاء الجامعة وليس في قاعات الدرس فقط». ومن واقع التجربة الحقيقية، يقول رئيس مركز تحديث الصناعة الدكتور أدهم نديم أنه زار هارفارد و «إم آي تي» قبل عقدين كاملين، وفوجئ بوجود مكاتب حول الجامعتين لاكتشاف المواهب العلمية. وحين سأل عن سبب هذا «الإهدار» للثروة العقارية، قيل له إن مثل هذه المكاتب مهمة لإقامة العلاقة بين الجامعات وقاعات الدرس وبين عالم الأعمال. تضييق هذه الهوة العميقة بين العالمين بدا قبل سنوات طويلة في الغرب، ولكن مصر والدول العربية باتت في امس الحاجة اليه اليوم. فالنبوغ البحثي والتفوق العلمي لخريج كلية العلوم لم يساعداه في فك شيفرة عالم المال والأعمال، وهو ليس وحده، لكن مثله كثيرون في كل الجامعات. الكليات الجامعية عامرة بالأفكار البحثية والأبحاث التي تم إنجازها بالفعل، لكن جرت العادة أن يكون الباحثون النبهاء غير قادرين على فهم لغة السوق والمال والأعمال، ومن ثم تبقى مثل هذه المناجم الذهبية من الأفكار والأبحاث حبيسة المعامل والدوريات البحثية. الدور المتوقع للمكاتب الجديدة سيضفي هذه الملكة على الطلاب والباحثين. لكن المهمة ليست سهلة، لا سيما أن الاهتمام بمثل هذه المكاتب ودعم البحث والابتكار عملية مكلفة ولا تؤتي ثماراً سريعة. يقول الدكتور أدهم نديم إن إحدى الشركات الفرنسية تدعم وحدة البحث والابتكار لديها بنحو 50 مليون يورو، وفي مصر فإن إجمالي موازنة صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية ما يتم إنفاقه على البحث والابتكار لا يتعدى مئة مليون جنيه مصري. المكاتب الأربعة الجديدة التي تم إطلاقها الأسبوع الماضي من داخل الجامعة الأميركية في القاهرة ستكون بمثابة مدرسة للأساتذة والإداريين والطلاب يتعلمون من خلالها سبل نقل التكنولوجيا، وبناء المهارات والقدرات. كما أن برنامجاً توعوياً سيتم توجيهه لكل الأطراف المعنيين من أكاديميين وأصحاب الأعمال. ويبدو أن تعلم ريادة الأعمال لم يعد اختياراً أو رفاهية، بل شرطاً أساسياً لدخول سوق العمل، وإثبات الكفاءة والقدرة على المنافسة، ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى الدول. ويقول نديم: «ظللنا لسنوات طويلة نروج لأنفسنا في مجال التصدير والأعمال والاستثمارات باعتبارنا الأرخص لجهة سعر الطاقة، والسلع، والمنتجات، والأيدي العاملة، والتقنيات حتى بتنا نعيش على الجانب الرخيص. كنا نفاخر وننافس لنختبر قدرتنا على مستوى الرخص الذي يمكن أن نصل اليه. أما الآن، فقد اختلف الوضع. لم أسمع من قبل ألمانياً يفاخر بأن اليد العاملة الألمانية هي الأرخص، أو يابانياً يروج لنفسه بأن السلع اليابانية هي الأرخص. علينا أن ننافس على الكفاءة والتقنية العالية والجودة. لكن علينا أيضاً أن نعلم أن ثقافة الاستثمار في البحث والتنمية تستغرق وقتاً». يقول أحمد هلال (25 سنةً) خريج كلية الهندسة جامعة الإسكندرية: «من الأفضل أن نتحمل الوقت ونحن نبني قاعدة علمية عملية لنقل التكنولوجيا من شأنها أن توفر فرص العمل، وترفع درجة الكفاءة وتعلم أصول خوض مجال ريادة الأعمال بدلاً من أن نمضيها ونحن عاطلون من العمل لأننا لم نتعلم مهارات السوق». ويشار الى أن مكاتب نقل التكنولوجيا الأربعة هي منحة مقدمة من برنامج «تمبوس» التابع للاتحاد الأوروبي ويتم تنفيذه تحت إشراف الجامعة الأميركية في القاهرة، بالتعاون مع خبراء من جامعة برلين الحرة في ألمانيا وجامعة «بوليتكنيك» تورينو في إيطاليا وعدد من الجهات المتخصصة داخل مصر.