كشف التوتّر بين موسكو وأنقرة على خلفية إسقاط تركيا قاذفة روسية قرب حدود سورية، الألغام المخفية في طريق المسار الديبلوماسي الذي تجهد الإدارة الأميركية إلى إطلاقه قبل خروج باراك أوباما من البيت الأبيض بعد سنة، ويختبر الكرملين ملامحه مع اقتراب بداية العام المقبل، موعد انتهاء مهلة التفويض للتدخل العسكري وتجنّب الغرق في المستنقع السوري. الراعي الأميركي - الروسي للمسار الديبلوماسي، أزال قبل توسيع منصّة الحوار السياسي في فيينا «عقدة الأسد» من طاولة النقاش، وانخرط ممثلو ووزراء 20 دولة في «المجموعة الدولية لدعم سورية» في صوغ مبادئ الحل السياسي أولاً ثم البرنامج الزمني للمرحلة الانتقالية وعناصر الحل، وكأن «الفيل ليس موجوداً في غرفة» الاجتماعات. وبصرف النظر، عن جدوى هذه المقاربة الديبلوماسية القائمة على «الغموض البناء» التي اخترعها خبراء الكرملين والبيت الأبيض، فإن ألغاماً كثيرة تتطلب الحلحلة كي يصمد المسار الهش الذي أُرغم عليه الفرقاء بحثاً عن الحل السياسي. التوتر التركي - الروسي، على رغم مساعي احتوائه، سلّط الضوء على خلاف كبير بين كتلتين: أميركا وأصدقاؤها من جهة وروسيا وحلفاؤها من جهة أخرى. يتعلق الخلاف بتعريف الإرهاب والتمييز بين المعارضين الشرعيين والإرهابيين. بدا للوهلة الأولى، أن الاعتداءات الإرهابية على باريس وإسقاط الطائرة المدنية الروسية فوق سيناء والقلق في بروكسيل وأوروبا من ثنائية الإرهاب واللاجئين، ضيّقت الفجوة بين الكتلتين: التحالف الدولي بقيادة أميركا الذي يضرب «داعش» في العراق وسورية منذ أكثر من سنة، والتحالف الذي تسعى روسيا إلى تشكيله لضرب هذا التنظيم. إذ بدأت ملامح تنسيق عسكري واستخباري بين روسيا وكل من أميركا وتركيا والأردن وفرنسا، وجرت محاولات لنقل التعاون من الجانب العملياتي إلى التنسيق العسكري... إلى التعاون السياسي لحل أزمة سورية وبلورة مستقبل الشرق الأوسط. كان طموح روسيا أن تدفع مخاوف الإرهاب خصومها إلى حضن تعريفها ل «الإرهاب». لكن، على رغم كل التصريحات العلنية، لا تزال الفجوة قائمة إلى الآن حيث يقف كل طرف على إحدى ضفتيها. صحيح أن دولاً غربية وإقليمية باتت تعتبر أن «داعش» هو «العدو الأول»، ما يتضمن عملياً «عدم اعتبار الأسد العدو الأول». لكن الخلاف، انتقل إلى ساحة أخرى: المعارضة السورية. إذ إن أميركا ودولاً غربية تقول إن حوالى 90 في المئة من الغارات الروسية استهدفت فصائل المعارضة المعتدلة وبعضها يتلقى دعماً أميركياً وإقليمياً وإن بقية الغارات ضربت «داعش»، خصوصاً بعد إعلان مسؤولية التنظيم عن إسقاط الطائرة الروسية في مصر. فاستهدفت غارات روسية مصادر النفط والغاز شرق سورية، معقل التنظيم الذي قال الكرملين إن تدخله العسكري استهدف هزيمته وقتل عناصره قبل عودته إلى الدول الإسلامية في روسيا الفيديرالية ومجالها الحيوي. قبل الاتفاق على «التحالف ضد الإرهاب» وقبل الاتفاق على دعم مفاوضات بين ممثلي الحكومة والمعارضة، لا بد من الاتفاق على «قائمة موحدة للإرهاب والمعارضة الشرعية». لكن، الأزمة الروسية - التركية على خلفية إسقاط القاذفة، أظهرت أن الفجوة لا تزال قائمة وأن لكل طرف تعريفه وأولوياته. أولوية موسكو هي إنقاذ النظام وربما إعادة إنتاجه بثوب جديد. الأكيد أن الطيران الروسي كان يقصف ريف اللاذقية. غير أن الخطاب الرسمي الروسي بما فيه تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين، يقول إن القاذفات الروسية كانت تستهدف «داعش» في ريف اللاذقية. لكن «داعش» غير موجود في تلك المنطقة كما هو ليس موجوداً في أرياف حماة وإدلب وحلب، بل إن مقاتلي المعارضة طردوا «داعش» من هذه المناطق قبل أكثر من سنة! الواضح، أن السلوك العسكري الروسي لا يختلف عن القاموس الإيديولوجي المنتج في وسائل الإعلام الروسية. مصدره واحد وهو الكرملين وارث النظام الشمولي السوفياتي. وهو لا يختلف عن السلوك الديبلوماسي والأمني الذي ظهر في اجتماعات بين كبار الموظفين السياسيين والأمنيين للوصول إلى قائمة موحّدة للإرهابيين. بالنسبة إلى موسكو، «المعارضة الشرعية» هي الشريحة النحيلة للمعارضين الموجودين في داخل سورية أو خارجها. أما المعارضة المسلّحة، فإن الخلاف عليها يكاد يذوب بين «داعش» والفصائل الإسلامية الأخرى و «الجيش الحر». إذاً، موسكو تريد مفاوضات بين الحكومة من جهة ومعارضين لا يمثلون وزناً عسكرياً على الأرض. أما مقاتلو المعارضة على الأرض، فمصيرهم متروك للغارات الروسية والسورية أو إلى المصالحات الموضعية الخالية من السياسة. المعادلة المأمولة بسيطة: النظام أو «داعش». كل ما عدا قوات النظام والمقاتلين الأكراد، هم «دواعش». بدا هذا واضحاً في مفاوضات للوصول إلى قائمة موحّدة ل «الفصائل الإرهابية» استكمالاً لعملية فيينا. الجانب الأميركي دعم هذه المرة مقاربة عربية - إقليمية بعدم إدراج «أحرار الشام الإسلامية» التي تملك نفوذاً واسعاً شمال سورية و «جيش الإسلام» قرب دمشق، ضمن «القائمة السوداء». لكن الطموح الروسي لا يزال قائماً في إنهاء هذه الفصائل عسكرياً أو «خنقها» بقرارات مجلس الأمن الدولي ومساواتها ب «داعش» و «جبهة النصرة». الأهم، أن الأزمة بين موسكو وأنقرة كشفت أن معظم الأطراف تراهن على الحل العسكري. التوتّر هو ذروة جبل الثلج في المستنقع السوري. هذا الرهان يتجاوز ما قاله المبعوث الدولي ستيفان دي ميتسورا إن الأطراف المتحاربة تصعّد عادة خطابها وعملياتها العسكرية قبل أي عملية تفاوضية. واقع الحال، إن ما جرى دل إلى أن الأمور يمكن أن تخرج عن السيطرة في أي لحظة، وأن قطار السلام قد يكون في مهب الريح لدى هبوب أي عاصفة. كما أن المعارك الدائرة جنوب حلب وفي ريفي حماة وإدلب وقرب دمشق، تعطي صدقية أكثر لرهان النظام على الحل العسكري، وأن رهانه هو أن يؤدي الغطاء الجوي الروسي إلى ترجمة بفراش عسكري تمده القوات النظامية في الجغرافيا السورية. نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد رفض من طهران قبول «مرحلة انتقالية». ثم رفض (أيضاً) وزير في الحكومة السورية «أي برنامج زمني» للحل السياسي يأتي من الخارج. غير أن الرئيس بشار الأسد، كان واضحاً في أن الحل السياسي غير ممكن قبل «دحر الإرهاب واستعادة الأراضي السورية». أما المرشد الأعلى ل «الثورة الإسلامية في إيران» علي خامنئي، فإنه قال خلال لقائه بوتين قبل أيام إن «الأميرکيين ومن يتبعونهم في القضية السورية يريدون تحقيق أهدافهم التي لم تتحقق بالطرق العسکرية، في الميدان السياسي وخلف طاولة المحادثات، لذلك يجب التصدّي لذلك بذکاء وفاعلية». وأضاف أن «الأسد فاز في انتخابات عامة بأصوات غالبية الشعب السوري من مختلف الرؤي السياسية والمذهبية والعرقية ولا يحق لأميرکا تجاهل صوت الشعب السوري وانتخابه». أيضاً، تتدفق الأسلحة، خصوصاً صواريخ «تاو» الأميركية، إلى فصائل معارضة لمنع النظام وميليشيات موالية من استعادة أراض واسعة و «الإبقاء على الضغط العسكري لجلب النظام وحلفائه إلى مائدة المفاوضات». بين هذا وذاك، هناك توازن عسكري مرن. تقدُّم هنا وتراجعٌ هناك من دون اختراق كبير يكسر معادلة الركود الهش. الواضح، أن ليست هناك خطة سياسية، بل هناك خطة عسكرية. الرهان هو على أن يحقق كل طرف في المسار السياسي الأهداف العسكرية. الجميع يقول إنه يريد السلام أو الحل الديبلوماسي. لكن، كل منهم يريد سلامه وحله السياسي. كل طرف يريد من القطار الديبلوماسي الذي انطلق من فيينا أن يصل بسورية ونظامها السياسي إلى مجاله السياسي. الشعب السوري تعب من صراع الآخرين على أرضه، لكن «الحلفاء» و «الأصدقاء» لا يزالون يرون في عناصر النظام ومقاتلي المعارضة وقوداً للحرب. وطالما أن الدول الإقليمية لم تصل إلى تفاهم وطالما أن الدول الكبرى منقسمة ولا تزال الفجوة بينها واسعة على رغم تضييقها بعد الاعتداءات الإرهابية، فإن طريق الحل السياسي لا يزال مزروعاً بألغام قابلة للانفجار في أي لحظة. * صحافي سوري من أسرة «الحياة»