48 ساعة من العمل أسبوعياً. هكذا ينصّ قانون العمل اللبناني أي إنّ المواطن يجب أن يعمل 8 ساعات يومياً من دون يوم الأحد، الذي يعتبر مبدئياً يوم عطلة. وهذا ما يؤمّن له فترة من الراحة بما ينعكس إيجاباً على إنتاجيته. لكن من يتذكر هذا القانون وما ينصّ عليه؟ من ناحية شركات القطاع الخاص، فمعظمها يلتزم بدوام الساعات الثماني لقاء الراتب الشهري الذي يختلف بحسب المستوى العلمي والمهارات، فيما يداوم موظفو القطاع العام غالباً أقل من هذه الساعات في وظيفتهم الأساسية. ولا تكمن المشكلة في مدى إلتزام الشركات والمؤسسات بالدوام، بل في الرواتب في شكل أساسي. فوفق البنك الدولي، ينتج 70 في المئة من السكان في لبنان دخلاً سنوياً أقلّ من 10 آلاف دولار أي بمعدل 833 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ زهيد مقارنة بكلفة العيش وأزمة الغلاء التي يعاني منها اللبناني في يومياته. وفي ظل هذه الأجور المتدّنية، لا يمكن إلا التفكير بوظيفة ثانية أو حتّى ثالثة، فالمطلوب أقله أن يتساوى المدخول مع المصروف فيما الإدخار شبه مستحيل. وضع مرهق حين يُسأل اللبنانيون عن العمل لمدة 8 ساعات يومياً لا يمكن إلا ملاحظة تعابير السخرية على وجوههم، ففي الواقع كثيرون منهم يعملون أكثر من 16 ساعة يومياً في وظيفتين أو أكثر لتأمين الحد الأدنى من حاجات عائلاتهم. ولا يقتصر ذلك على فئة دون أخرى، فالمتعلّمون وأصحاب المهارات يتساوون في هذه المشكلة مع غير المتعلمين والعاملين في مجالات لا تتطلّب مهارات عالية. ومن الأمثلة على ذلك، أنّ أستاذ المدرسة الذي يبدأ عمله الساعة السابعة والنصف صباحاً ليترك المدرسة الساعة الثالثة والنصف قد داوم 8 ساعات، وبالتالي لا بدّ أن يعود إلى منزله ليستريح ويكون لديه الوقت للقراءة أو لمتابعة آخر المستجدات في عالم التعليم ليعزز بها مهاراته. لكن ما يحدث مع أستاذ الرياضيات فارس تماماً كما آلاف من نظرائه، هو مغادرة المدرسة على عجل للوصول إلى مركز التعليم حيث يدرّس التلاميذ الأجندة اليومية، وبعدها يكون لديه أكثر من 3 تلاميذ كحصص خاصة لينتهي عمله عند الساعة التاسعة والنصف ليلاً. والمجموع الكامل لكل هذه النشاطات اليومية التي يقوم بها تبلغ 1300 دولار أميركي، يدفع منها فارس إيجار منزله وفواتير الكهرباء، الماء، المولّد، الهاتف الخليوي، المحروقات، المأكل والمشرب وقسط سيارته ليبقى لديه مبلغ زهيد لنهاية الشهر، وهو لا يزال عازباً على رغم بلوغه الثلاثين، لأنّه لم يستطع أن يدخر مبلغاً ولو صغيراً يحفّزه للإقدام على خطوة الإرتباط. أما رب العائلة، فحاله أسوأ بكثير، لأنّ الهدف الأبسط لديه هو الوصول إلى مدخول ألفي دولار شهرياً لتأمين الحد الأدنى من العيش، إذا كان أب لطفلين، وذلك ينطبق أيضاً على عمل الزوجة حيث تكافح لتحقيق مساهمة في مصاريف العائلة. لكن ذلك يعني بالتأكيد العمل أكثر من 8 ساعات! فالزوجان هاني وداليا يعمل كل منهما في وظيفتين، فيبدأ اليوم عند الساعة السابعة صباحاً ولا يعودان قبل التاسعة أو العاشرة ليلاً، فيما يعود طفلاهما من المدرسة إلى منزل الجدة. ويقول هاني في هذا السياق: «خمس ساعات نوم باتت تكفيني، لكن أكثر ما يزعجني أن لا وقت اخصصه لعائلتي حتّى زوجتي وأنا، وكأننا غريبان نلتقي مساء مع كل التعب والإرهاق اللذين تراكما خلال النهار». ويحقق الزوجان معاً دخلاً يصل إلى 2500 دولار، لكنّهما كما غيرهما يجدان ذلك غير كافٍ في ظل الأقساط المصرفية المتراكمة عليهما وأقساط المدارس والحاجات اليومية التي تزداد أسعارها بإضطراد. ... أفضل من البطالة ليس سهلاً أن يستمر اللبناني في نمط الحياة الذي يعيشه، فيلهث ليلاً ونهاراً راكضاً خلف لقمة العيش. والمشكلة أنّ المدخول جامد لا يتغيّر الا في حالات نادرة، فيما المصروف إلى زيادة مضطردة بسبب تفاقم الغلاء والإتجاه التصاعدي للأسعار. فمن كان يخصص 200 دولار للحاجات المنزلية شهرياً، يدرك اليوم أنّ هذا المبلغ لا يكفي نصف ما كان يؤمنه منذ سنوات قليلة ماضية. ولكن مع هذه الصعوبات، يتمسّك اللبناني بأي فرصة عمل يجدها ولو كانت ذات راتب زهيد لمواجهة أزمة البطالة المستفحلة في البلد. فكما يقول أحمد، العامل في قطاع البناء: «وضع العمل في مختلف القطاعات سيىء، وليس هناك من يتطلع بحقوق العمال الذين يغرقون أنفسهم في العمل لجني بعض الدولارات يومياً. لكن ذلك يبقى أفضل من البطالة». فاليوم يزداد عزم اللبنانيين على العمل وفي أكثر من وظيفة متاحة مع القلق المستمر من البطالة في ظل المزاحمة التي تشهدها القطاعات المهنية بين اللبنانيين والسوريين خصوصاً، فضلاص عن اللاجئين والنازحين من جنسيات أخرى والعمال الأجانب أيضاً، على رغم محاولات وزارة العمل حصر بعض الوظائف باللبنانيين، لكن من دون فرض رقابة مشددة على هذا الموضوع للحدّ من المنافسة غير الشرعية.