في باكورتها الروائية الطويلة «عُدْ إلى بيتك»، تقف المُخرجة اللبنانية جيهان شعيب - وكحال الكثير من المخرجات والمخرجين اللبنانيين - عند محطة الحرب الأهلية، راوية حكاية عن مفاعيل تلك الحرب وكوابيسها المستمرة تدور حول فتاة لبنانية مهاجرة، تعود الى بلدها بعد قطيعة سنوات طويلة من أجل جمع وإعادة ترتيب صور حياتها الأولى وذاكرتها التي هشّمتها تلك الحرب بعنفها وانحطاطها. فتح الجروح تندرج مقاربة المخرجة التي تعيش في فرنسا لموضوع الحرب تحت الاتجاه السينمائي اللبناني الناقد والمتواصل منذ سنوات عديدة، والذي يشكل استعادة وفتح جروح تلك الحرب معتبراً مُحاسبة أبطالها وزمنها أمراً حتمياً له، وفعلاً عاطفياً تلقائياً، يمر به كُثرّ قبل أن يكون بالمستطاع الانتقال سينمائياً الى حقبة آخرى. رغم صعوبة ذلك في البلد، الذي لم يتصالح أبداً مع تلك الحرب، بل إن مسبباتها مازالت تنهش في مكونات الحياة السياسية والاجتماعية لكيانه. يختار الفيلم (عُرض أخيراً في مهرجان بوسان الدولي في كوريا الجنوبية) قصة مُعاصرة لمغتربة، ليستعيد عبرها الأجواء المشحونة القاتمة للحرب الأهلية اللبنانية. تستحوذ البطلة تلك على كثير من زمن الفيلم ومعظم مشاهده، فنسمع صوت لهاثها قبل أن نراها في المشهد الافتتاحي المظلم. عندما تصل البطلة (نادية) الى الضوء، يتبين أنها كانت تسحب حقيبة سفر ثقيلة، صاعدة في ظلام شوارع القرية اللبنانية الجبلية التي ولدت فيها، وتعود إليها اليوم وحيدة بعد أكثر من عقدين من العيش في فرنسا. ما أن تصل نادية الى عتبة بيت العائلة الكبير، حتى تبدأ بكشف خداع الذاكرة، والمسافات بين الحقيقي والمتخيل. فالمفتاح الذي كانت تحمله لبيت العائلة لم يكن له حاجة لفتح الباب الذي كان مشرعاً أصلاً للهواء والدخلاء. وحديقة البيت تحولت الى مكب للنفايات. فيما لم يبق من فخامة البيت سوى هيكله. لكن هذا لن يحبط من عزيمة البطلة. فهي في مهمة كانت تستعد لها حياتها كلها: البحث عن الجَدّ الذي اختفى في الحرب، وحل ألغاز الذكريات والكوابيس التي تراودها، ومنها خاطر ملح بأنها ربما شهدت على حدث عنيف للغاية يخص مصير ذلك الجَدّ. بينما كانت البطلة تجتهد لترتب حياتها في القرية، بانتظار الأخ الذي يعمل في أفريقيا ليساعدها في إيجاد الجَدّ، كانت تغطس بطيئاً في المستنقع اللبناني الواسع من حولها، والذي كانت الحرب الأهلية أحد تجلياته وانفجاراته المدوية. كل شيء من حولها يذكّرها بالحرب تلك، حيث لا أحد يريد أن يودّع ذكرياتها. من العمة المريضة التي اعتزلت العالم ولجأت إلى دير، حاقدة على أهل القرية الذين خذلوا أباها. والعمة الأخرى (لعبتها الممثلة المتميزة جوليا قصار)، كنموذج لطبقة اجتماعية مهترئة لكن نافذة. فيما أبقى الفيلم سيرة الجَدّ ذاته يلفها الغموض. لن نعرف إذا كان هو، ومثل ما تدّعيه بناته، ضحية عنف مافيات الحرب، أو أن يديه هو نفسه ملطختان بدماء تلك السنوات. عندما يصل الأخ في نصف الفيلم، يتبدّل مناخ هذا الأخير وتزداد حيويته، إذ يشارك الأخ البطلة في وقت الفيلم والدراما، كما يكمل الأخ الشاب صورة العائلة. يحمل الأخ خطة لبيع بيت العائلة، وتوديع الماضي كله. أما الوالدان اللذان يعيشان في فرنسا، ولم يرجعا إلى لبنان منذ الحرب، فاختار الفيلم أن يبعدهما عن القصة. ليكون الفيلم ما يشبه جردة حساب بين جيل الحرب والجيل الذي كان طفلاً عندما انفجرت. آثار تلك الحرب تجرّد المخرجة الحرب اللبنانية من تفاصيلها المُركبة وتاريخها المتشابك وتبقي على آثارها وثقلها النفسيّ المتواصل، والوحشيات التي تركتها. هذا في مقابل تحويل يوميات نادية في القرية إلى سلسلسة من الحوادث قدمت ضمن سرد مثير، اهتم بالأساس بالبطلة وهواجسها ومخاوفها ورحلتها لاستكشاف مصير الجَدّ. لذلك بدت الإشارات القليلة عن الواقع اللبناني المُعقد، زائدة عن فيلم وجد خطه الدرامي الخاص، بعيداً من المعالجة الواقعية المباشرة. تستعيد المخرجة عبر مشاهد حلميّة طفولة نادية. كما تركّب في مشاهد متقنة صوراً للبطلة مع أخرى لها كانت طفلة، رغم صعوبة هذا النوع من المشاهد التي تهشّم بالعادة وهم الموضوعية. تتعرّف البطلة على شاب صغير من القرية، وهذا سيكشف جانبا آخر من شخصيتها. وهي الشخصية التي همينت مع تلك التي تخص أخيها على الفيلم، وكان العمل أكثر أكتمالاً وإتقاناً بحضورهما، ليتعثّر الفيلم في كل مرة يحاول فيها الخروج من المناخات الذاتية لتقديم عالم أوسع، كما في مشاهد النهاية، عندما حاولت المخرجة ربط خيوط القصة العديدة، من دون أن تحمّل تلك المشاهد أو النهاية صرامة البداية القاتمة المؤثرة. أدت الممثلة الإيرانية المعروفة گلشيفته فراهاني دور نادية. وإذا كان الجدل يحيط دائماً بأداءات الممثلين والممثلات الذين يلعبون شخصيات من جنسيات ولغات مختلفة عن أصولهم. الا أن فراهاني كان خياراً موفقاً للغاية. فاللغة العربية الضعيفة التي تحدثت بها في الفيلم، كانت منسجمة مع ظروف الشخصية، التي ودعت العالم العربي عندما كانت طفلة، واجتهدت كي لا تنسى لغة الماضي. في حين بدت في لغتها الفرنسية متمكنة تماماً من تجسيد أزمات الشخصية وانفعالتها الصارخة والمكتومة، وفداحة ما تقوم به، بفتحها جروح حياتها السابقة. عثرت فراهاني، التي شاركت في أفلام إيرانية مهمة قبل أن تبدأ حياة سينمائية مثيرة خارج إيران، على جوهر شخصية نادية الإنساني المُعذب. وبالخصوص التعبير عن الآثار النفسية لطفولتها المشوّهة، وما حدث في البلد الأول، والذي يلاحقها ويفسد ما تحاول أن تؤسسه في حياتها الثانية.