على أن فقهاء الشريعة في السعودية يشاع عنهم التمسك الشديد بالآراء التي يعتقدونها في الأصول والفروع، إلا أن البحث في مسألة معينة كمسألة «تقنين الأحكام الفقهية»، يقود الباحث عن الجوانب المضيئة في تاريخ هؤلاء العلماء إلى مظاهر ديموقراطية لافتة، وتبايناً في الرأي موثقاً، ينقض ما يتردد بأن أعضاء هيئة كبار العلماء في السابق كانوا «عقلاً واحداً» موزعاً على مجموعة، أو أنهم كما ينتقدهم البعض «علماء سلطة» يفعلون ما يؤمرون. بدأت القصة كما تروي الوثائق في وقت قريب من تأسيس الدولة السعودية الحديثة على يد المغفور له الملك عبدالعزيز، الذي أعلن في 1346ه عبر صحيفة «أم القرى» اهتمامه ب «وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة، تكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293ه، ولكنها تختلف عنها بأمور، أهمها: عدم القيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في مصلحة المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلاً من الكتاب والسنة». ونص أمره حينئذ إلى هيئة المراقبة القضائية، على الطريقة التي تسلكها في عملها، فقال: «إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذا الحكم معتبراً وملزماً لجميع المحاكم والقضاة». وشرح أمره بالقول: «المذاهب الأربعة متفقة في الأحكام الأساسية وفي كثير من الأحكام الفرعية. أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم، وفي كل اسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحلة العلماء، وينظرون في ما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلاً من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب، ويصدر القرار بشأنها، ويكون هذا القرار ملزماً لسائرالمحاكم الشرعية والقضاة. وأساساً قوياً لتوحيد الأحكام وتأليفها». إلا أن هذا التوجيه، كما يفيد الشيخ عبدالمحسن العبيكان الذي أورده في معرض الرد على المعترضين على التقنين، تحولت بعده الفكرة إلى أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقاً على المفتى به من مذهب الإمام أحمد، فصدر قرار الهيئة القضائية رقم (3) في 17/1/1347ه المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24/3/1347ه، بما تضمنت أول بنوده «يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقاً على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ نظراً إلى سهولة مراجعة كتبه، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله...إلخ». لكن القضية لم تقف عند هذا الحد، إذ طالب الشهيد الملك فيصل من كبار العلماء في عهده البحث مجدداً في «تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به»، وهو ما قامت به الهيئة، في دورتها (الثانية) التي استبقت جلستها بتكليف اللجنة الدائمة المتفرعة عنها ببحث المسألة فقهياً، فخرجت ببحث محايد من سبعة محاور. إلا أن هيئة كبار العلماء قررت بغالبيتها أنه «لا يجوز تدوين الأحكام على الوجه المقترح لإلزام القضاة الحكم به، لأنه ليس طريقاً للإصلاح ولا يحل المشكلة ولا يقضي على الخلاف في الأحكام أو على ظنون الناس في القضاة ما دام هناك محكوم عليه... إلخ». غير أن اللافت أن أعضاء الهيئة البالغ عددهم في تلك الدورة 16 عضواً، خرج عن قولهم «ستة» شكلوا رأياً نقيضاً، نص على «جواز تدوين الأحكام الشرعية المختارة من أرجح أقوال العلماء، دليلاً في كتاب يجري تعميمه على المحاكم وإلزام القضاة الحكم بموجبه». مع ذلك الأسباب التي دفعتهم إلى قولهم ذلك. وكان الستة المشايخ صالح بن غصون، وعبدالمجيد حسن، ومحمد بن جبير، وعبدالله بن منيع، وعبدالله خياط، وراشد بن خنين. المثير للانتباه أن رأي الأقلية المهمة في اجتماع كبار العلماء ذاك، لم يستثمر في البحث عن المخرج، إلا بعد حين، لما خاض الشيخ عبدالمحسن العبيكان جدلاً ساخناً، أخرج فيه سائر أوراقه للدفاع عما يراه الحل الأمثل للقضاء، فصدر بعد ذلك نظام القضاء الجديد، الذي تضمن مراسم ملكية عدة، مهدت لجلسة كبار العلماء في الصيف الماضي، التي بدأت في نقاش «التقنين» قبل أن تحسمه بالغالبية قبل نحو شهر في دورتها المنعقدة في مدينة الرياض. ومع أن قرار هيئة كبار العلماء الجديد، لن يسعد بعض المعترضين، إلا أنه حتماً سينهي مع الوقت نقاشاً طال، وبلغ سيله الزبى! توقيعات كبار العلماء في دورتهم «الثانية» التي ناقشوا فيها «التقنين» قبل نحو 40عاماً