ينتمي المفكر علي حرب إلى جيل المفكرين الذين شُغلوا منذ حرب حزيران عام 1968 بنقد الخطاب الديني وتحليله وتأويله، أمثال صادق جلال العظم، ونصر حامد أبوزيد. وعبد الهادي عبد الرحمن. وفعل النقد كما يمارسه المفكر اللبناني في معظم كتاباته، وبوجه خاص في كتابه «الإرهاب وصّناعه» (الدار العربية للعلوم -ناشرون 2015 )، يكمن في تفكيك التركيبات المعرفية للخطاب الديني التي تتضمن الأنظمة اللاهوتية، والتفاسير الفقهية، والأحداث الطائفية والمذهبية، وكذلك في تحليل المشاريع والدعوات التي تنادي بها الحركات الإسلامية المتطرفة التي تنطلق من النص، لكنها تحرّف معناه، وتوظّفه لصالح دعواتها. (الإخوان المسلمون، داعش، النصرة). ينبع الخطاب الديني كما تتعاطاه الحركات الإسلامية المتطرّفة على ما يرى حرب من القرآن الكريم، والحديث النبوي، وتفاسير العلماء وأقوالهم، كما يبدو بارزاً اليوم. أما منطلقات هذا الخطاب الديني فقد تمّ استنباتها زمن الشيخ رشيد رضى (1865- 1935) وغذتها مصادر وروافد عديدة ومختلفة، أدّت إلى القول إن لا صلاح للأمة إلا بالاعتصام بالنص، والعودة إلى الإسلام بتعاليمه وشرائعه، بوصفه العنوان والنموذج والبرنامج، ومن يخالف أو يعارض هذا القول يتهم بالكفر والشرك والزندقة، فيعمل على نفيه وإقصائه، علماً أن الشيخ محمد عبدو، وكان مفكراً متنوّراً أشار في أكثر من مناسبة إلى أنه بعد «وفاة النبي لا وصاية على العقل لأحد». يميّز علي حرب في تحليله للخطاب الديني الذي تركز به الحركات الإسلامية المتطرفة، بين خطابين: خطاب المسلم وخطاب الإسلامي. خطاب المسلم يعبر عن انخراط المسلم في عالم الحداثة، وعن تعامله مع هويّته الدينية كشأن خاص يحمل رأسمالاً رمزياً، يعود بقيمه ومعانيه إلى القرآن الكريم. أما الخطاب الإسلامي فهو ينمّ عن رغبة في تحقيق مشروع شمولي، يطمح إلى أسلمة الفكر والحياة لإنقاذ الأمة والبشرية جمعاء. ومن الطبيعي أن تكون نهايته كارثية على الأمة والبشرية جمعاء، كما هو مآل كل مشروع يفكر أصحابه بمفردات القداسة والوجدانية والانغلاق والتطرف. يشكّل الخطاب الديني من وجهة نظر فلسفية على ما يرى المفكر اللبناني عند الحركات الإسلامية المتطرفة، نموذجاً للأطروحة الأصولية بأركانها الأربعة: الأوّل يتجلّى في وجود أصل خرافي أو واقعي طوطماً أو شخصاً، حدثاً أو نصاً يجسد الحقيقة المطلقة الأولى والأخيرة، والثاني يتبدّى في العودة إلى الأصل للتماهي معه على سبيل الاحتذاء، والتقليد أو العبادة والتقديس، أما الثالث فيكمن في ادعاء كل أصولي القبض على حقيقة الأصل واحتكار تمثيله بوصفه المرجع والقياس الوحيد في العمل والنظر، أو الفكر والمسلك، أما الرابع فيقوم على ادعاء كل حركة أو جماعة أصولية بأنها الأحق والأصدق والأفضل بالنسبة لبقية الناس. يجسّد الخطاب الديني من منظور سياسي على ما يقول حرب عند الحركات الإسلامية المتطرفة سعياً لإقامة دولة الخلافة من أجل تطبيق الشريعة، شعارها في ذلك «الإسلام هو الحلّ». هذا مع أن الخلافة بعد وفاة النبي لم تكن نعيماً، بل كانت مسرحاً للانقلابات والصراعات الدموية التي حفل بها تاريخ الإسلام السياسي، أضف إلى ذلك أن الدافع المخفي وراء شعار «الإسلام هو الحل» لم يكن يوماً تطبيق الشريعة، وإنما العمل على إشباع إرث استبدادي يكمن في الوصول إلى السلطة والقبض عليها والاحتفاظ بها بأي ثمن، ولو بانتهاك كل القيم الخلقية والإنسانية كالتقى والتواضع والتكافل، وإلا فكيف تفسّر الحروب الأهلية بين الإسلاميين سواء على مستواها المكبّر بين الفرق والمذاهب، أو على مستواها المصغّر بين التنظيمات التي تنتمي إلى المدرسة نفسها. وهكذا فالكل يتصارع على السلطة باسم الدين، والدين من ذلك براء. يكشف الخطاب الديني عند الحركات الإسلامية المتطرفة من الناحية الإيديولوجية كما يرى حرب أن المسلمين أمة واحدة، لكنّ الاستعمار فرّقهم، والحداثة أخرجتهم عن دينهم الحنيف، ولذا لا بدّ من إعادتهم إلى ما كانوا عليه بأي وسيلة. هذا الوهم الذي عشّش أيضاً في عقول أصحاب المشاريع العروبية الوحدوية الذين تعاموا عن الواقع المجتمعي بتنوّعه وتعقيداته بأطواره وتحوّلاته، كانت نتيجته مزيداً من الفرقة والتجزئة، كما فعل العروبيون الذين أثبتوا أنهم عاجزون عن توحيد حي في مدينة، وكما يظهر اليوم من خلال عجز الحركات الإسلامية المتطرفة، عن توحيد فصيلين يتقاتلان في جبهة واحدة كالنصرة وداعش. لا يكتفي حرب بإبراز السمات المميّزة للخطاب الديني عند الحركات الإسلامية المتطرفة في إطار ما هو مفكّر فيه، وإنما يذهب باتجاه ما يسكت عنه هذا الخطاب، أي ما يمارسه من الخداع والزيف، في ما يخصّ المماهاة مع الأصول والسير على خطى السلف، إذ إن هناك فارقاً كبيراً بينهم وبين جماعة السلف الصالح الذين كانوا خلاّقين فاتحين. في حين أن المعاصرين تابعون مقلّدون عاجزون، أضف إلى ذلك، أن جماعة السلف الصالح ميّزوا الدين عن الدولة. وتجلّى ذلك في الفصل بين الحكّام والعلماء، ولذلك لم تسمّ الدولة باسم الإسلام، بل باسم القائمين بها (فقيل دولة العباسيين، ودولة بني أمية). أما المعاصرون فإنهم يريدون الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية. من جهة ثانية كان جماعة السلف الصالح متواضعين، لم يدّعوا بأن الإسلام هو دين العقل، وإنما استعملوا العقل في تأويل النصوص وقراءة الواقع، على أن المعاصرين قامت علاقتهم بالعقل على الادعاء، والسطو على منجزات الآخرين. يعتبر المفكر اللبناني في نهاية تحليله لخطاب الحركات الإسلامية المتطرفة، أنّ لا بدّ بعد هذه الكوارث والانهيارات التي سبّبتها هذه الحركات، أن تعالج الأمور بطريقة جديدة ومختلفة، وإذا كان ثمة حاجة للإصلاح فالبداية هي التوقّف عن استخدام الدين كعنوان للفكر والحياة، أو للإصلاح والنهوض، لأن تغليب منطق الدين والطائفة والمذهب على لغة المواطنة والدولة والجدارة والحياة المدنية، لا ينتج إلا ما يفاجئ ويصدم من الحروب الأهلية التي اندلعت ولم تنته فصولها بعد. في النهاية علي حرب يكتب عن الإسلام بروح بنّاءة، وعقل منفتح، يكتب ليندّد بالذين يتخذون الإسلام ذريعة لتحقيق بطولاتهم ونجوميتهم، يكتب من دون أن يخاف المسّ بالمحرمات، أو يخشى أي وصاية من أية سلطة أو جهة أتت، أكانت دينية أم فلسفية أم سياسية. لذلك يتحوّل فعل التفلسف عنده إلى رأي حرّ يثير الإعجاب لجرأته، ويتحول ّنصه الفكري إلى فنّ في الكتابة فريد ومميّز، وهذا سرّ تقدير القرّاء له في لبنان والعالم العربي.