ربما تكون العمارة هي الفن الأكثر تطلعاً إلى المستقبل. فما إن تبدأ عمارة الحاضر في التحقق، حتى يتجه خيال المعماريين وعلمهم إلى ابتكار تصاميم للمستقبل. أهمية العمارة ليست فقط في تصميم المباني أياً كانت وظائفها، ولكن أيضاً في أنها تصحب معها فنوناً وعلوماً أخرى في مجالات مثل التشييد والتصميمات الداخلية والإضاءة وغيرها. فما هي عمارة المستقبل التي يعمل عليها مصممو اليوم؟ يمكن أن تتعدد الإجابة، ولكنها من وجهة نظري هي العمارة التي غادرت الأرض. عمارة الماء والسماء. ظلت العمارة منذ بدايتها مرتبطة بالأرض عبر القرون وعبر الحضارات المختلفة. لكن، فُرض على العمارة اليوم أن تغادر الأرض لأن الأرض أصبحت غير آمنة للحياة عليها. هدف العمارة الأول هو توفير المأوى. أي توفير الملاذ الآمن للإنسان. يبدو أن الملاذ الآمن سيحط في القريب العاجل على الماء أو يعلق في الجو. فعمارة المستقبل تهدف إلى التكيف مع تغيرات الطبيعة والتعايش مع الكارثة! مثلاً: تصميم مبان تقاوم الفيضانات وتتعايش مع الأعاصير! لذا، تظهر أفكار جديدة وجريئة قد لا يستوعبها كثر من الناس الآن. لنرَ ترجمة عملية عند معماريين يصممون لعمارة المستقبل: يعتقد المعماري الهولندي كوين أولتيوس أن المباني العائمة هي عمارة المستقبل. يعطي مثلاً بسفينة ركاب ضخمة تحمل ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف شخص يعيشون فوق الماء ويتنقلون من مدينة إلى أخرى. على ذلك يرى أنه من الممكن أيضاً أن نبني مباني عائمة لمئات الأشخاص في بيئة مائية. يريد بناء منازل تمكن حمايتها من الفيضانات بأقل جهد. وهو يعتقد أن الماء ينبغي أن لا يمثل مشكلة، بل أن يكون جزءاً من الحل. لذا، وبطريقة ما يفكر المعماريون الآن في كيفية جعل مدننا تعيش مع الماء بدلاً من مكافحته. يطلق على المعماري كوين أولتيوس لقب الهولندي العائم. فقبل 9 سنوات أسس مكتبه «ووتر استديو»، المختص ببناء منازل عائمة. التقنية الأساسية ليست جديدة، فهولندا تعرف المنازل العائمة منذ أكثر من 40 عاماً. لكنه يصمم منازله في أشكال وأحجام مختلفة كمبان لها أساسات إسمنتية عازلة للماء والتي يمكنها وفق قانون أرشميدس أن تطفو. ثم يجر المنزل بقارب في البحر ليستقر في المكان المطلوب. هكذا نشأت منطقة جيبورج الساحلية شرق أمستردام، كلها من المنازل العائمة الفاخرة المجهزة لتواجه ارتفاع منسوب المياه. للمنازل العائمة ميزة أخرى قد لا نتوقعها، إذ إن بإمكانها امتصاص الطاقة وتحويلها إلى حركة، لذا فهي لا تتأثر كثيراً بالعواصف. ففي ظروف الطقس الخطرة يكون الوجود في الماء أفضل من الوجود على اليابسة. فهل يمكن أن تكون هذه المنازل العائمة حلاً لإنقاذ مدينة البندقية المهددة بالغرق؟ المشكلة في تنفيذ مثل هذه الأفكار أن الكلفة عالية جداً. لكن مشاريع المعماري الهولندي في نيويورك، وريو دي جانيرو، ودبي جعلته مشهوراً على مستوى العالم. بعض تصاميمه العالمية غير عادي. مثلاً وضع تصميماً لمسجد عائم وميناء عائم ويحلم ببناء استاد عائم. استاد يؤجر لكل حدث رياضي ضخم وينتقل من مكان إلى مكان، بما يفتح مجالاً اقتصادياً جديداً تماماً. مضى كوين أولتيوس خطوة أبعد: زار هو وفريقه أحياء دكا القديمة. وما شاهدوه تأثروا به كثيراً. العديد من الأحياء الفقيرة تقع في مناطق الفيضانات. أولتيوس مقتنع بأن طريقة بنائه مجدية هناك. في هذه الأحياء الفقيرة القريبة من الماء يمكن استحداث المباني العائمة لمساعدة تلك الأحياء على تحسين الحياة والأوضاع فيها. صمم حاويات بسيطة، حيث يمكن أن يكون في داخلها مدارس أو حمامات أو محطات توزيع كهرباء. عندما يحدث فيضان في منطقة ما تبقى الخدمات الأساسية في معظمها جافة. يأمل المعماري الهولندي بإثراء الأحياء المسكونة بأفكار غير تقليدية. بأفكار ومبان تقينا من تقلبات الطقس وربما تساهم في إنقاذ العالم. يتابع كوين أولتيوس أيضاً خطة جريئة. يريد بناء أبراج عائمة لإيجاد مساحة للطبيعة التي طردت خارج مدننا، يطلق عليها اسم «أشجار البحر». ربما تحولت يوماً ما إلى غابات مدننا الكبرى. يقول: «نحن في حاجة إلى طيورنا وأشجارنا وأسماكنا الصغيرة ليبقى النظام البيئي فعالاً. أقترح الآن أشجار بحر عائمة تشبه حديقة، يمكن تقسيمها إلى مناطق وصنع برج منها. هذه الأبراج أو أشجار البحر الخضر نقيمها على بعد مئة أو مئتي كيلومتر ثم ننقلها إلى الماء. ما تفعله هو أنها تضيف نظاماً بيئياً جديداً تماماً هناك. لذا، ستكون لدينا أماكن للطيور الصغيرة والحيوانات الصغيرة تحت الماء». يشاطره الهدف نفسه وإن في شكل مختلف البروفيسور الألماني فيرنر سوبك الذي يقوم بالتدريس في شيكاغو. وهو مدير معهد تصميم المباني الخفيفة في شتوتغارت في الوقت نفسه، ولديه مكتب في دبي. هو مختص بالمباني الخفيفة والواجهات الشفافة. يرى سوبك أن العمارة يجب أن تكون استشرافية وأن طرق البناء يجب أن تخضع للمراجعة في شكل أساسي. فيرنر سوبك واحد من أشهر المهندسين المدنيين ويعمل مع معماريين كبار مثل نورمان فوستر وهيلموت يان، لكنه صمم تحفته الفنية وبناها بمفرده: منزله المعتبر أيقونة معمارية. فالمنزل يزن 16 في المئة من وزن منزل عادي بالحجم نفسه، وهذا يعني أنه يوفر 85 في المئة من الحمولة، وبالطبع أيضاً الكثير من الطاقة. في الوقت نفسه لا يستهلك أقل كمية من الموارد فحسب، بل هو قابل للتدوير بالكامل. إنه المنزل الحديث الأول القابل للتدوير بنسبة 100 في المئة منذ الأكواخ الطينية ذات الأسطح المصنوعة من القش. غير ذلك لا يكون ما نبنيه سوى مكب نفايات من صنع البشر. واجهات المنزل زجاجية وشفافة تماماً لكنها عازلة جيدة للحرارة. ثلاث طبقات من الزجاج الخاص مع وجود غازات خامدة بينها تنقل الحرارة بأقل مما يفعل الهواء. لهذا السبب يتابع فيرنر سوبك ابتكار الأفكار الجديدة. مثلاً هو يحلم بمبنى ليس رفيقاً بالمناخ والبيئة فحسب، بل أن يكون جزءاً من الطبيعة في كل حالات الطقس وكل المناطق المناخية. قال: «في طفولتي كنت أحلم بالعيش في فقاعة صابون». لذا، يعمل على تصميم منزل يمكن أن يتم داخله تخزين الكهرباء والحرارة، وفي الوقت نفسه المزيد من الراحة والشفافية بكبسة زر، حيث يمكننا الجلوس في أحضان الطبيعة لأننا نستطيع رؤيتها في كل الاتجاهات، أو يمكننا تعتيم الزجاج آلياً، ربما بالتصفيق، ويمكننا فتح المنزل من خلال فتحة تبدو كشفرة! في الاتجاه نفسه أيضاً، يريد المعماري الأميركي الشاب تيد جيفنز أن تكون عمارة المستقبل متنقلة ويمكنها أن تتفادى الأعاصير المدمرة والعواصف الشديدة من دون أن تتأذى، من خلال خاصية تجعلها قادرة على الغوص داخل الأرض. يتساءل تيد: نحن نعيش ثقافة التنقل، فلمَ لا نجعل منازلنا متحركة أيضاً؟ ويجيب: سياراتنا تتحرك ونحن نتحرك، فلندع المنزل يستفيد من هذه التكنولوجيا. المعماري تيد جيفنز صاحب رؤية ولديه أفكار غير تقليدية مُذ كان طالباً. كان مشروع تخرجه هو تصميم منزل تحت الأرض. لم يكن فوق الأرض سوى مرأب كبير. كان تصميمه دعوة إلى إعادة التفكير في كل شيء. اليوم تيد جيفنز شريك في شركة مقرها هونغ كونغ. في السنوات الثلاث الماضية، فاز بعشر مسابقات معمارية كبرى في الصين. صمم مباني بواجهات ذكية تنظف نفسها بنفسها. ووضع مخططاً لحرم جامعة يتسع ل12 ألف طالب. أثناء تطويره مشاريع عالمية كبرى، لم يفقد رغبته في عمارة الأعاصير، ربما لأنه شهد هذه العواصف المرعبة في طفولته. ما زال جيفنز مبهوراً بقوى الطبيعة والعلاقة بين البشر وبين الطبيعة. «علينا أن نعمل مع الطبيعة وإن حاولنا العمل ضدها فسنفشل كل مرة». هذا قاله تيد جيفنز، وكتبته أنا قبله بسنوات عدة في سلسلة مقالاتي «آخر قرون الإنسان» المنشورة في جريدة «الأخبار» القاهرية. بالطبع كتبت المعنى وليس الحرف. خطر ببال جيفنز أن يبني منزلاً متنقلاً يمكن إنزاله تحت الأرض عندما تقترب عاصفة. استغرق هو وفريقه سنوات لفهم تعقيدات تكنولوجية لتحقيق فكرته. كانت النسخة السابعة من التصميمات ناجحة يتحرك فيها المنزل بأنظمة هيدروليكية. أساس المنزل حوض تحت الأرض من الإسمنت المدعم وتحته طبقة من الحصى، يتم التحكم به برافعات هيدروليكية. أراد جيفنز أن يجعل المنزل أقل وزناً من البناء التقليدي بحيث يمكن النظام الهيدروليكي المركزي أن يرفعه على ذراع. كانت الفكرة أن يكون الشكل بسيطاً، ومواد البناء خفيفة والغلاف من الكيفلر. تغليفه بالكيفلر يبقي شكله إروديناميكياً. الكيفلر مادة خفيفة وقوية ومكلفة تستخدم في صنع السترات الواقية من الرصاص، لذا فحلم جيفنز بإنشاء قرية كاملة من الكيفلر سيكون مكلفاً جداً. تعتمد الفكرة على وصل القرية بأقمار المناخ الاصطناعية حتى يتم إنزال البيوت بالتزامن عند الضرورة. يحلم تيد جيفنز أيضاً ببناء منازلنا من طريق طابعات ثلاثية الأبعاد، وربما إنشاء مصدات عواصف لكل منطقة سكنية. يحلم ببناء منزل يكون كل شيء فيه آلياً. بناء منزل كالجسم البشري يصلح نفسه في حال حدوث ضرر. إن كانت هناك عاصفة يصنع غلافاً ويزيله في اليوم التالي... هذه الأفكار المجنونة ستشعل شرارة أفكار أخرى. هذا هو المستقبل.