أثارت فتوى البراك جدلاً فقهياً كبيراً بين مؤيد ومعارض، كما أثارت جدلاً حول موضوع حرية التعبير وشروطها، شخصياً أرى أن الخوض في الجدل الفقهي يرسخ الأرضية التي ينطلق منها البراك وبالتالي أفضل أن أتناول مؤسسة الفتوى بالنقض وليس فتوى محددة، ولكن في هذه الحال بالذات أرى أن الجدل حول حدود حرية الرأي أهم وأبعد أثراً، فلدينا موقفان أساسيان في هذا السياق: أحدهما يرى أن ما قام به يقع ضمن حدود حقه في حرية التعبير، وآخر يرى أنه تجاوز هذا الحق وتعدى على حقوق غيره، بل قد يستحق العقوبة لذلك. في تصوري فإن طرفي القضية يصيبان طرفاً من الصواب، ولكنها كلها أيضاً، وبغير استثناء لأحد، تجانب طرفاً آخر منه، وذلك لأن أي موقف سيتضمن التضحية بشيء هو عزيز على الأطراف كلها، وأظن أن الحوار في هذا يجب أن ينطلق من كون الجواب المثالي متعذراً بل ونسبياً، ما يبقي الباب مفتوحاً لإعادة النظر في الموضوع، والحسم العملي لمصلحة طرف من الأطراف لا يعني بالضرورة الحسم المعرفي، بل المسألة في عمقها عملية وليست معرفية وبالتالي تخضع لمتغيرات متعددة تجعل القطع بالصواب مستحيلاً، والحسم العملي لن يكون للأمثل وإنما للأقل ضرراً، والمنتصر في القضية يجب أن يقر لنفسه ولغيره بأنه مهزوم في جانب آخر. ولأن الأطراف كلها تنطلق من هم مشترك هو تحقيق الأمن والسلم الاجتماعيين، فمن يريد إبقاء مساحة الحريات واسعة يريد الأمن والسلم من احتمالات زيادة التضييق، ومن ينطلق من ضرورة التضييق المحدود ينطلق من الخوف على التماسك الاجتماعي أو على التعدي على الأفراد، والناظر في الجدل يرى أن لب الموضوع هو الإضرار بالغير، فالكل يتفق على أنه غير مقبول البتة، ثم سيقع اختلاف في وجود علاقة مباشرة بين رأي ما وبين إضرار على الغير. ولأن هذا هو لب الموضوع فإن التشخيص سيكون دائماً نسبياً، لأنه سيعتمد على قراءة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي كما هو اليوم، وبالتالي لا يمكن القول مثلاً بأن فتوى التكفير تضر في كل وقت وفي أي ظرف، أو أنها خالية الضرر على الإطلاق أيضاً، ولأن التشخيص نسبي فلن يمكن الاعتماد على تجارب دول أخرى إلا من باب الاستلهام وليس من باب الاقتداء. ثبات العلاقة بين الرأي وبين الضرر يعتمد على نوع الرأي، وفي ما نحن فيه فسأقصر الكلام على الآراء التي فيها ذم أو تحقير أو إهانة أو سلب لإنسانية بما يؤدي لسلب حق الحياة أو الأمن من آخر، وفي هذا النوع من الآراء فإن أهم ما يجب بحثه هو في القيمة التحريضية لرأي ما بحيث يتحول رأي شخص من الأشخاص إلى فعل مضر على يد شخص آخر، فمثلاً يرى البعض أن فتوى البراك سلبت ممن يبيح الاختلاط حق الحياة أو الأمن من الأذى، وبالتالي قد تؤدي إلى أن يتعدى أحد عليهم بالقتل أو بغيره، وفي هذه الحال فلا بد من الإجابة عن مجموعة أسئلة مثل: 1- ما التحريض؟ هل مجرد التصريح بأن أحداً ما يستحق القتل أو يستحق الإهانة تحريضاً أم لا؟ قول في مجلس خاص، كتابة القول على «الانترنت»، نشرها ورقياً، مناقشتها في جلسة عامة مفتوحة بأسلوب أكاديمي، قولها على منبر عام بلهجة استنفارية عالية، مخاطبة الحكومة بإلحاح بهدف تطبيق هذا الرأي، تكوين جماعات بهدف تبني هذا القول... في هذا كله تعبير عن رأي، ولكن هل تتساوى في قيمتها التحريضية؟ 2- هل يصح تحميل القائل مسؤولية فعل المستمع؟ هل أنا مسؤول عن كل فعل يقوم به غيري؟ فتشخيص التحريض يعتمد على إيجاد علاقة شبه مباشرة بين قولي مثلاً وبين احتمال مرتفع للقيام بالفعل من آخر، ولكن المشكلة أنه حتى مع وجود تلك العلاقة فهل هذا يكفي لأتحمل مسؤولية الفعل الناشئ؟ ماذا عن الأسباب الأخرى الكامنة مثل تربية الفاعل أو الانفعالات الموقتة بسبب من حوله؟ هل يتحمل أطفاله مسؤولية أنهم استفزوه وقت ما كان يسمع القول فتصرف بغباء ما كان سيقوم به لو أنه هادئ؟ وكثير من الجدل في حرية الرأي ينحل إلى جدل حول مسؤولية قائل عن أفعال غيره، والأمثلة التي يتم تكرارها حول احتمال قيام أحد بتنفيذ حكم القتل هي من هذا الباب، فهل المشكلة الحقيقية في الرأي التكفيري أم في استعداد البعض للعمل ضد الغير خارج إطار مؤسسات الدولة؟ وإذا كانت الثانية هي المشكلة الحقيقية فمن المسؤول عن ذلك؟ 3- هل العلاقة بين القول وبين فعل الغير معتمدة على الدولة؟ مثلاً لو قيلت هذه الفتوى في منطقة نائية من مناطق باكستان، إذ السيطرة المركزية للدولة ضعيفة، فإن أثرها سيختلف كثيراً، وبالتالي هل يجب إدخال قوة الدولة وسيطرتها على الأمن كعامل يميز القول التحريضي عن غيره؟ 4- ثم هل الاستقرار والأمن مسؤولية الفرد أم مسؤولية الحكومة؟ وهل يحق لحكومة أن تحمل غيرها مسؤولية تقصيرها في تحقيق الأمن؟ فالتحريض لا يكون فاعلاً ولا يكون مخيفاً إلا بقدر ضعف الأجهزة الأمنية التابعة للدولة، فهل المهم تصرفات الدولة ومؤسساتها؟ أم تصرفات الأفراد وأهواؤهم؟ 5- هل طبيعة الطرف المستهدف يؤثر على تشخيص الخطاب؟ وسأكون صريحاً هنا، لو صدرت فتوى تكفير من شخص ينتمي إلى مجموعة مستضعفة ليس لديها أتباع، هل سيتم التعامل معها باعتبارها تهديداً أم فقط باعتبارها إهانة؟ لو صدر تكفير لسلطة عليا، هل سيتم التعامل مع التكفير على أنه تهديد لها أم استفزاز وإهانة؟ هل القيمة التهديدية للرأي متناسبة مع قوة القائل وضعف المستهدف بالرأي؟ ما علاقة التوازن في القوى بين الأطراف المعنية بالقيمة التحريضية للرأي؟ 6- ومن أهم الأسئلة التي يجب التفكير فيها هو من الذي سيقوم بالإجابة عن تلك الأسئلة السابقة؟ من الذي يحدد كون هذا الرأي يستحق العقاب أم لا؟ من يقول هذا خطاب كراهية في حين أن ذاك خطاب حرية؟ فمتى ما تحول إلى قانون فسيكون هناك من يفسر القانون ويسقطه على الواقع، فمن هو؟ وكيف يتم ضمان ألا يتحول القانون إلى وسيلة لقمع رأي مخالف؟ ولكن حتى بعد الإجابة عن تلك الأسئلة، وتحديد طبيعة العلاقة الفعلية بين رأي وبين ضرر على الغير، فهناك سؤال آخر يفرض نفسه وهو: ما علاقة نضج ثقافة الحريات بالميل نحو أحد طرفي القضية؛ حرية الرأي أو إضرار الغير؟ هل تقييد حرية الرأي في مجتمع ناضج في فهمه وممارسته للحريات غير ذلك في مجتمع لا يزال يحبو فيها؟ هل هناك خطر أكبر على مستقبل الحريات في المجتمع الثاني؟ والإجابة عن هذه الأسئلة كافة وغيرها مما فاتني لا يمكن إلا من خلال حوار واسع بين أطراف متعددة، بحيث يتم ربط الإجابات بظروف المجتمع ومستقبله المأمول، والإجابات التي قد نخرج بها في المملكة قد لا تكون مفيدة في بريطانيا أو في المغرب، بل قد لا تكون مفيدة لنا بعد بضع سنوات، والانتباه إلى الطبيعة النسبية للإجابة وإلى قصورها عن المثال مهم كما ذكرت أولاً. قد يبدو أنني أميل إلى رأي من دون آخر، ولكن حقيقة الحال أنني أميل فقط إلى التفكير العميق وإلى التريث قبل أي مبادرة أو محاولة لتقييد حريات الرأي، ذلك أنها من أكثر الحريات هشاشة وتعرضاً للهجوم من السلطات بمختلف أشكالها، سلطة الأسرة، والمجتمع، والمال، والدولة، وهي أهم ضمان ضد الجهل والاستبداد والتخلف، وأهم من هذا أن أي تقييد لها قد يقيد البراك وأمثاله، ولكن سيقيدني في وقت من الأوقات، وسيقيدني في وقت أنا في أمس الحاجة فيه إلى للكلام الحر، إن حقي في التعبير عن نفسي يعتمد على حق الآخرين التعبير عن أنفسهم، وكما أريد أن أعبر عن أفكار مناقضة تماماً لآراء سائدة في المجتمع ومستفزة بشكل عميق لشرائح واسعة من الناس، فلا بد لي أيضاً من السماح للآخرين بأن يعبروا عن آرائهم التي تستفزني بل وقد تهددني، وكلما قيدت رأي غيري فتحت الباب لتقييد رأيي الخاص. * كاتب سعودي [email protected]