لم يشعر أحد بأنين النخل وهم يغرسون في جذوعها أفياش الكهرباء ليشعلوا أضواء صغيرة في أسفلها ويمدوا أسلاكاً مضيئة تتسلقها حتى الفرع الأعلى. كانوا ينظرون إليها من نوافذهم العالية وبلكوناتهم الفسيحة ولا أحد أبداً يسمع أنينها. لم ينصت أحد لصراخ العشب حين كانت تلك العربة الثقيلة تجثم على أنفاسه وتجزه بكل عنف، والعامل الذي يقود العربة ينظر خلفه في كل مرة ليرى حجم ما أنجزه، وليحكم على براعته في تهذيب العشب غير مدرك مقدار الألم الذي أحدثه في جسد العشب، وهم ينظرون إليه من نوافذهم العالية وبلكوناتهم الفسيحة ولا أحد منهم يسمع طقطقة ضلوعه وأنينه المتصل. لم يفطن أحد لبكاء شجيرات الزينة الملتفة حول الحديقة الخضراء المستطيلة التي تفصل بين الشاطئ والفندق، بينما الجنايني يعمل بدأب متباهياً بمقصه الطويل، يقص أجزاء من أسفلها، وأجزاء من أعلاها، وأجزاء كثيرة من جوانبها لكي لا تكبر، ولكي لا تتطاول خارجة عن حدودها المرسومة سلفاً في التصميم. كانوا ينظرون إليها من نوافذهم العالية وبلكوناتهم الفسيحة ولا أحد أبداً يسمع ذلك النشيج المتقطع. هكذا بدا المنظر من نوافذ الفندق العالية وبلكوناته الفسيحة، حديقة خضراء مستطيلة بامتداد الشاطئ المقابل للفندق، عشب مقصوص بعناية كأنه سجادة مصنوعة من صوف أخضر، نخلات باسقات موزعة بالتساوي على امتداد السور القصير المعمول من شجيرات الزينة المقصوصة بعناية حتى لكأنها في تناسقها واستوائها سور من أسمنت أخضر. كانوا ينظرون بإعجاب واندهاش إلى الحديقة والشاطئ والبحر، وحين تعود أبصارهم إلى الحديقة تبهرهم روعتها ودقة تنسيقها ولا يسمعون شيئاً. وحده في بلكونته الفسيحة كان يتخيل لو أنه إحدى تلك النخلات، والكهربائي يغرس في ساقيه أفياش الكهرباء ويمد أسلاكاً تتسلق جسده العاري، كيف سيكون صراخه؟! أو لو أنه كان العشب كيف سيتحمل ثقل العامل، وثقل العربة وقسوة المقص، أو لو أنه إحدى شجيرات الزينة والجنايني يقص أصابعه واحدة إثر الأخرى والدم يتطاير نوافير، هل سيظل يئن وحيداً في صمت. وحده بكى، ووحده أشاح بنظره عن الحديقة، لأنه كان يسمع أنيناً متصلاً لم يستطع تحمله. * قاص وأكاديمي سعودي