ما كاد ينطفئ سراج القرن التاسع عشر، وذرَّ القرن العشرون رأسه (1898-1899م)، حتى أرسلت السلطات القيصرية الروسية في ذلك الحين، ضابطاً روسيا مسلماً هو عبدالعزيز دولتشين، للقيام برحلة إلى المملكة العربية السعودية بقصد الحج كسبب مُعلن، وبقصد تسجيل تقرير مفصّل عن جملة مشاهداته وانطباعاته حول بلاد الإسلام وأحوالها كسبب مُضمر. وكان الدافع وراء هذه المهمة السرية، هو اهتمام الروس بمسألة الحج من جهة، وبما انتهت إليه أحوال العالم الإسلامي من جهة أخرى. أما اهتمامهم بمسألة الحج، فنابع من وجود الملايين من المسلمين الذين ضُمّت بلادهم وأراضيهم قسراً للسلطة القيصرية الروسية، وبالتالي محاولتهم معرفة ما يقدمه الحج، كفريضة على المسلم، وكيف يؤثّر فيهم وعليهم. وأما اهتمامهم بالعالم الإسلامي، فنابع من أهمية هذا العالم الاستراتيجية والذي كان يجسّد في ذلك الحين مساحة صراع فعلية بين الدول الكبرى، بحيث أرادت الدولة الروسية أن لا تكون بمنأى عنها. يقدم هذا الكتاب «الحج قبل مئة سنة» الذي جمعه يفيم ريزفان وثيقة فريدة من نوعها في غناها وتعدُّد موضوعاتها وميادينها، حيث تزخر بالتفاصيل المهمّة عن أدق أمور الحياة اليومية في بلاد الجزيرة العربية، والبلاد التي زارها دولتشين في طريق ذهابه وفي طريق عودته. فإضافة إلى المقدمة التي تتحدث عن حال الصراع الدولي وأثره في منطقة الجزيرة العربية وعلى العالم الإسلامي برمّته، والأسباب الكامنة وراء اهتمام الروس بمسألة الحج، يحتوي الكتاب على جداول وتفصيلات متنوعة حول عدد الحجّاج من كل دول العالم، وعدد السفن التي تصل إلى جدّة، وأسماء الوكلاء والأدلة. كما يتضمن كلاماً حول الحدود والطوبوغرافيا والمناخ والسكان وحركة التجارة والصناعة والأوضاع السياسية والتقسيم الإداري، إضافة إلى معلومات غنية حول القافلة والركب والمحامل المصرية والسورية، في كلٍّ من الحجاز ومكةالمكرمة والطائف وجدّة والمدينة المنور وينبُع إلخ.... وينتهي الكتاب بستة ملاحق مهمّة بأقلام علماء مسلمين أجلاّء من التابعية الروسية عن وصف الحج وبوابات الكعبة، وعن الحج من وجهة نظر روسية، وغير ذلك من المواضيع الفائقة الأهمية. أصل هذا الكتاب عبارة عن التقرير الذي كتبه عبدالعزيز دولتشين إلى السلطات الروسية بعد عودته من الحج سنة 1898-1899م، وقد قام بجمع معلوماته ورتّبها ونسّقها الكاتب الروسي يفيم ريزفان، وترجمتها إلى العربية دار التقدم في موسكو. ويتضمن الكتاب مقدمة طويلة لأناطولي ريزفان يتحدث فيها عن اهتمام أدب الرحلات بأوصاف المدينتين المقدستين: مكّة المكرمةوالمدينةالمنورة. فالعديد من الكتب الجغرافية، وفي مقدمها كتاب «سفر نامة» الذي ألّفه ناصر خسرو (394- 481ه = 1003- 1088م)، تتحدث عن أوصاف الحج في مكة. وما بين العامين 1875 إلى 1861م أصدر فريناند فوستنفلد سلسلة تاريخية من أربع مجلدات تحت عنوان: «أخبار مدينة مكة»، كما يحتوي كتاب أوغست رالي: «المسيحيون في مكة» عرضاً مفصلاً لانطباعات رحالة أوروبيين زاروا هذه المدينة بدءاً من سنة 1503 وانتهاء بسنة 1894م. والحال أن المواد التي استرعت انتباه صاحبي هذين الكتابين الأخيرين ترتبط في المقام الأول بمكةوالمدينة مباشرة، ولكنها تتسم بأهمية خارقة على صعيد دراسة الحج بالذات، ودوره التاريخي والثقافي والاجتماعي السياسي في المجتمع الإسلامي المعاصر. أما كتاب دولتشين فيرتكز على وثائق ومواد فريدة وعسيرة المنال من الأرشيفات والمكتبات السوفياتية: أرشيف المستشرقين السوفياتي، وأرشيف الدولة العسكري والتاريخي بموسكو، وأرشيف الدولة التاريخي المركزي بلينيغراد، ومجموعات المخطوطات والوثائق بأكاديمية العلوم بجمهورية أوزبكستان، وأرشيف سياسة روسيا الخارجية ...إلخ. ومن ثمّ فإن القرار غير العادي نوعاً ما بإرسال ضابط مسلم في الجيش الروسي هو النقيب دولتشين، قد اتُخذ في وضع تعاظم فيه دور العامل الإسلامي في سياسة روسيا الداخلية والخارجية. فقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر مرحلة تاريخية مهمة على صعيد تعاظم نفوذ روسيا في الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى. ففي العام 1898 تم ضم إقليم تركستان إلى روسيا، فالتحق بقوام الامبراطورية الروسية – علاوة على الشعوب الإسلامية التي كانت تعيش فيها من قبل- ملايين المسلمين ممن حافظوا على بنية علاقاتهم في إطار العالم الإسلامي، بحيث بلغ عدد المسلمين في روسيا 16 مليون نسمة. لكن في 18 أيار (مايو) 1898م قامت حركة ضد المستعمر الروسي بزعامة الشيخ الصوفي إيشان محمد علي صابر أوغلي، الذي قام قبل ذلك بقليل برحلة إلى الحج، واستقبل رسلاً من اسطنبول من بينهم خمسة من مدراء النواحي، وقضاة محليون. وكان قد سبق ذلك صدور نسخة من القرآن الكريم في سنة 1787م في مدينة بطرسبورغ بأمر من الامبراطورة إيكاتيرينا الثانية، كان قد أعدّها للطبع الملا عثمان إبراهيم وزودها بالحواشي والتعليقات. وقد أعيد طبع النص مراراً عديدة في كل من/ بطرسبورغ وقازان. كما صدرت طبعة أخرى على حساب الخزينة الروسية، ثم صدر فرمان بتاريخ 15 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1800م أُلغيت بموجبه القيود على إصدار المطبوعات الدينية الإسلامية في روسيا، وفي العام 1802م افتتحت في قازان أول مطبعة إسلامية. ونتيجة لكل هذه التطورات الداخلية والخارجية تبدت بكل وضوح في أوساط المسلمين من رعايا روسيا، على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين، تغيرات جمّة في وعي الشعوب الإسلامية، كما نشأت الاتجاهات الإحيائية في الفكر الديني والفكر الاجتماعي السياسي حيث عرض أصحاب هذه الاتجاهات أفكاراً قريبة جداً مما نادى به كل من: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والسيد أحمد خان. في المقابل ، نشأ عن تزايد قلق الأوساط الحاكمة بصدد الوضع في المناطق الإسلامية في الامبراطورية الروسية أن نبعت ضرورة جمع المعلومات الموضوعية بشأن دور الحج في الحياة الاجتماعية والسياسية للمسلمين في روسيا، فأصدرت هيئة أركان الدائرة العسكرية التركستانية سلسلة بعنوان: «مواد في الإسلام» ابتداء من العام 1898م، من إعداد اللجنة الخاصة بدراسة أحوال ونشاط رجال الدين المسلمين في إقليم تركستان. وتدريجاً أخذت قضية «الحج إلى مكة» تكتسب مزيداً من الاهتمام والأولوية، حيث اعتبروا الحج سبيلاً لتسرب أفكار «الجامعة الإسلامية» إلى مسلمي روسيا، كما كانوا غالباً ما يربطون الاضطرابات في المستعمرات الإسلامية السكان بصدور أوامر أو فتاوى بالجهاد تصدر من مكة في مواسم الحج التي تزايدت فيها أعداد مسلمي روسيا، حيث بلغ مجمل الحجّاج من رعايا روسيا وبخارى القادمين إلى مكة عبر الهند وأفغانستان في سنة 1891 زهاء 1269 شخصاً، وعبر القسطنطينية 784 شخصاً، بينما ارتفع العدد في العام التالي إلى 3043 عبر الطريق الأول و 804 عبر الطريق الثاني، وتزايد في عام 1893 إلى 4328 عبر بومباي، وعبر السويس. وعندما اختير الضابط عبدالعزيز دولتشين للقيام بهذه المهمة السرية فإنه لم يكن على علم بحاجات المسلمين البسطاء القاطنين في أراضي روسيا، لكنه كان على صلة بعدد من الشخصيات المسلمة المحافظة نوعاً ما كحميد الله آخون من بطرسبورغ، وعطا الله بايازيدوف صاحب الأفكار التجديدة الإصلاحية. وفي هيئة الأركان العامة للجيش الروسي التي مضى دولتشين إلى مكّة بتكليف منها، كان ثمة تقليد علمي جدي يقضي بدراسة لغات الشرق الأدنى والأوسط. وإذا كانت «يوميات دولتشين» تدل على مبلغ عمق الانطباع الذي خلّفته مراسم الحج في شعوره الدينيّ، فإن تقريره يُبين إلى أي حدٍّ تفهّم بدقة واهتمام القضايا المطروحة أمامه. ومن هنا بحث في العام 1899م عن إمكان القيام بمأمورية جديدة إلى القسطنطينية لأجل مواصلة دراسة المسائل المتعلقة بحج المسلمين من رعايا روسيا، لكن عوضاً عن ذلك انتظرته مهمة جديدة حيث أُرسل إلى آسيا الوسطى للإطلاع على نشاط المحاكم الشعبية. أيضاً كان دولتشين رئيساً للجنة بناء جامع بطرسبورغ الذي جرى إرساء أساس بنائه في الثالث من شباط (فبراير) سنة 1910م. ونتيجة لجهوده المتواصلة كوفئ دولتشين بموجب فرمان من القيصر نيقولاي الثاني بوسام ستانيسلاف، كما منحه أمير بخارى وسام النجمة الذهبي من الدرجة الثالثة. وبعد ثورة 1917م تعاون دولتشين مع حكومة العمال والفلاحين من أجل تحسين حياة المسلمين في تركستان، فاهتم بمسائل الري، وساهم في شراء المطبوعات الضرورية المتعلقة بإصدار كتب التعليم باللغات المحلية، ووضع خطة لمكافحة الملاريا، وعمد إلى وضع موجز تاريخي عن القوات المسلحة البشكيرية.