شغلت وقتي في أيام الحج المبارك هذه بقراءة ما بحوزتي من كتب الحج التي نشرها علماء ومستشرقون روس، واعتمد مؤلفو تلك الكتب على وثائق ثمينة ومخطوطات نفيسة محفوظة في ارشيفات ومكتبات عدة في بلدان الاتحاد السوفيتي السابق لا يمكن لمثلي الوصول إليها ومنها: أرشيف المستشرقين في لينينغراد، ومكتبة معهد الاستشراق في أكاديمية العلوم في لينينغراد ،وثائق ومخطوطات لدى أكاديمية العلوم في طشقند بأوزبكستان، وأرشيف الدولة المركزي للاسطول البحري الحربي في لينينغراد، وأرشيف وزارة الخارجية بروسيا، وعدة أرشيفات في مكتبات متفرقة في لينينغراد، وموسكو، وتبيليسي. وهذه الكتب اطلعت على معظمها مترجماً إلى اللغة الانجليزية، ما عدا كتاب واحد قرأته باللغة العربية. وهو كتاب نفيس عنوانه: (الحج قبل مئة سنة: الرحلة السرية للضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين إلى مكةالمكرمة 1898 - 1099م). والكتاب من تأليف: يغيم ريزفان. وهذه الطبعة الثانية، طبعتها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في بيروت 1414ه - 1993م. وعناية الروس وعلماء الجمهوريات الإسلامية بمدن الحجاز المقدسة قديم. وتلك العناية راجعة إلى أمرين: الأول الصراع الدولي على الجزيرة العربية والشرق الأوسط بين القوى العظمى في القرن التاسع عشر. والثاني اهتمام روسيا القيصرية، ومن ثم الاتحاد السوفيتي بالحج وبمكةالمكرمة والمدينة المنورة بسبب وجود آلاف من المسلمين في جمهوريات آسيا الوسطى. وهي جمهوريات انضوت فيما بعد ضمن الاتحاد السوفيتي. وما هالني هو كثرة الكتب والكتيبات المخطوطة التي ألفها حجاج من روسيا وعدة بلدان أخرى من آسيا الوسطى. هذه الكتب المخطوطة لا نعرف عنها شيئاً البتة. وهنا أورد بعض العناوين مترجمة إلى اللغة العربية دون التطرق إلى مباحث تلك العناوين: كتاب وصف طريق الحج تأليف الملا ميرزا عليم بن دام الله ميرزا رحيم طشقندي. كتاب وصف بوابات كعبة الله والأماكن المقدسة حيث يمكن أن يقبل الله صلوات المؤمنين تأليف: الملا ميرزا عليم بن دام الله ميرزا رحيم طشقندي. كتاب منطقة المسلمين المقدسة في الجزيرة العربية: ذكريات حاج. تأليف الحاج سليم غيري سلطانوف. كتاب مكة مدينة المسلمين المقدسة: مقتطفات من حديث حاج. تأليف الحاج عيشايف كتاب الحج من وجهة نظر روسية. تأليف ف.ب. تشيريفانسكي. ملف مخطوط يضم وثائق وزارة الداخلية الروسية. وهي وثائق تختص بالأمراض والأوبئة السائدة والمستوطنة في مكةالمكرمة والمدينة المنورة. وتاريخ هذه الوثائق في سنة 1903م وقد جُمعت من أجل الحصول على موافقة الدولة الروسية على مشروع القواعد المؤقتة بصدد حج المسلمين. وهو مشروع قُدم إلى مجلس الوزراء في شخص وزير الداخلية: ف.ك. بليفي. وهنا أعرض ما كان يُدعى بالقواعد المؤقتة لحجاج روسيا. وهي: 1 - المسلمون المسافرون للحج إلى الحجاز وإيران وبلاد ما بين النهرين يمنحون جوازات سفر من طراز خاص. 2 - من أجل عودة الحجاج يعين وزير الداخلية مرافئ البحر الأسود وبحر قزوين، ونقاط المراقبة الصحية على الحدود البرية. 3 - عند العودة يخضع الحجاج للتطهير الطبي الصحي. 4 - يشار في جواز الحاج إلى أنه تم تطهيره. وهذه الإشارة توضع على ورقة ترفق بالجواز، ثم تُرسل إلى المحافظ الذي يتبع الحاج محافظته. 5 - إذا عاد الحاج من غير المراكز المشار إليها، يُرسل إلى أقرب مركز من أجل التطهير الصحي. 6 - من يخالف هذه التعليمات من الحجاج يعاقب بالاعتقال لمدة شهر أو غرامة مالية قدرهامائة روبل. 7 - يخضع منزل الحاج العائد إلى التطهير الطبي الصحي. 8 - يتابع المحافظون كل في ما يخصه حالة الحجاج العائدين، ويتخذ المحافظون التدابير اللازمة لمراقبة الحجاج طبياً فترة زمنية معينة. تلك القواعد الصارمة التي اعتمدتها امبراطورية قيصر روسيا تُشير بوضوح إلى كثرة الأمراض والأوبئة المستوطنة في الحجاز، أو التي تأتي مع الحجاج من مختلف بقاع الأرض. وبمقارنة بسيطة بين واقع الأمس واليوم نجد مدى التقدم الذي حصل في الحجاز بخصوص محاصرة الأوبئة المعدية. وكان ضابط المخابرات الروسي عبدالعزيز دولتشين الذي حج عام 1998م مكلفاً بعدة مسائل منها: تقديم تقرير مفصل عن حالة الحجاز الصحية.. ومعرفة توجهات حجاج قادمين من دول الصراع الدولي في الشرق الأوسط، ومعرفة نوايا دول أوروبا الغربية تجاه الحجاز والجزيرة العربية.. ومعرفة خطط وبرامج الدولة العثمانية في الحجاز.. لكن عبدالعزيز كتب بجانب التقارير المطلوب منه إنجازها، (كتاب سفر ممتاز عن رحلته إلى الحجاز )في 255 صفحة من الحجم المتوسط.. هذا السفر مليء بالملحوظات التاريخية والاجتماعية والدينية والاقتصادية.. ومليء بالتوصيات مرفوعة لمقام امبراطور روسيا.. لقد كانت روسيا آنذاك ترى في الخليفة العثماني العدو اللدود.. وفي الوقت نفسه كانت روسيا تقف بصلابة ضد التجديد الديني، وضد علماء المسلمين المجددين.. بل كانت تؤيد الإسلام المحافظ، ورجال الدين التقليديين.. من هنا نستطيع أن نفهم طبيعة التقارير التي كتبها الحاج عبدالعزيز. من ذلك مثلاً ما أورده عبدالعزيز المذكور على لسان أحد مدرسي الحرم المكي وهو: السيد علي طاهر الذي قال: (إيماننا صحيح لا ريب في هذا، ولكن لا وجود للعدالة في الدول الإسلامية، ويجب البحث عن العدالة عند الروس) إن شكوى هذا المدرس من غياب العدالة في الدول الإسلامية قبل مائة سنة، هي الشكوى نفسها التي تتردد الآن على لسان مثقفي الدول الإسلامية. إن هذا لشيء عجاب أن تستمر هذه الملحوظة كل هذه السنوات الطوال. لقد رأيت في ما اطلعت عليه معلومات مهمة تخص هذه البلاد أرضاً وسكاناً وتاريخاً. لهذا فإنني أقترح على دارة الملك عبدالعزيز، أو مركز أبحاث الحج أو مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية تبني مشروع علمي يهدف إلى تتبع تلك التقارير والكتب والوثائق في مضانها المختلفة، وتصويرها وجلبها الى المملكة. ووضعها متاحة للباحثين. لقد رأيت معظم الباحثين في شؤون الحج والحجاز والمملكة يؤمون وجوههم شطر المراكز والمكتبات في دول أوروبا وأمريكا. ولكنهم قلما يفطنون إلى وجود علم غزير يقبع في جوارنا. أقصد جوارنا الإسلامي. وكل عام وأنتم بخير وسلام.