في عام 1898 كلف وزير الدفاع الروسي كوروباتين، اللواء عبدالعزيز دولتشين - مسلم من أصل تتري - بمهمة سرية يقوم بها لأداء فريضة الحج، «ليفهم ما إذا كانت ممارسة مسلمي روسيا لهذه الشعيرة تشكل خطراً على مصالح روسيا القيصرية، العسكرية والسياسية في الشرق». وسجل دولتشين رحلته إلى الحج بعنوان: «يوميات السفر إلى مكة»، وتضمنت تقريراً عن الحجاز شمل جميع مناحي الحياة، مفصلاً استعدادات حجاج مناطق روسيا لأداء الفريضة، إذ تبدأ رحلتهم من نهاية رمضان وتستغرق ستة أشهر. وذكر دولتشين في تقريره بأن «الحجاز لو توافرت له حكومة تعنى بشؤونه أكثر مما يفعل العثمانيون لحظي بقدر معين من الرفاه واليسر، ولتوافرت ظروف أفضل لأداء الحج، ولتم مد سكة الحديد في الحجاز، مما يمكن من قضاء الحج كله في 7 إلى 10 أيام، ولفقد الحجاز سمعته كبؤرة سيئة للأمراض المعدية». ويضيف: «وعلى العموم إن تنظيم قضايا الحج حاجة حيوية ملحة، وربما تجد حكومتنا - روسيا - من الضروري، نظراً إلى وضعها السياسي في العالم الإسلامي، أن تأخذ زمام المبادرة في هذا المجال المهم». وكان الحجاز وقت رحلته تحت سلطة الدولة العثمانية، ولاحظ أن العثمانيين «سلطتهم شكلية»، وهم موجودون في المدن، وكذلك على الطريق بين جدةومكة، ولكن سلطتهم في هذه الأماكن لا تحظى بالمكانة اللائقة، وظلت علاقتهم بالسكان علاقة عدائية وانعدام ثقة، وهذا سبب انفلات الأمن، وتنهب القوافل المارة تحت سمع وبصر المخافر التركية على الطرقات بين المدن. وأشار إلى أن الخوف يسير مع القافلة، من هجمات قطاع الطرق الذين تنتشر أخبار أفعالهم. ولفت إلى أن ما هو رهيب في الحجاز ليس الحرارة العالية، بل الرياح الحارقة التي تهب في حزيران (يونيو) وتموز (يوليو)، ويواجه البدو هذه الرياح السموم بدس الثوم في مناخيرهم وأذانهم، ويتدثرون لمواجهتها بعناية. وسجل ما لاحظه من أساليب معالجة أهل البادية ووقايتهم من الأمراض، «أوسع وسائل العلاج انتشاراً الفصد والحجامة، والكي بالحديد المحمي، وبعد ولادة الطفل تعمد القابلة إلى شق ثلاث شقوق بالسكين على صدغي الطفل وظهره وغيرها لتحاشي الأمراض». انطلقت الرحلة من عشق أباد مروراً بالعاصمة بطرسبرغ، التي استقل منها السفينة التي أبحرت في خليج مرمرة حتى وصلت إلى الإسكندرية، ومنها بالقطار إلى السويس، «حجاجنا أذهلهم لا مبالاة المسلمين المحليين، فأثناء الصلاة يبقى قسم كثير منهم في الدكاكين والمقاهي، وداخل المساجد لا تجد الرزانة والمهابة الملازمة لجوامع موسكو». وعندما حان موعد ركوب الباخرة «تملكني الرعب من ملء الباخرة بالركاب، لم يتسن لي يوماً منظراً كهذا، وأثناء الرحلة، يطبخ الحجاج لأنفسهم المآكل على مناقل يضعونها في كل مكان من عنابر السفينة، ويشعلون السماورات والنارجيلات، وكل هذا لا يحسبونه خطراً». وصلت الباخرة إلى جدة، «رسونا في وسط الخليج، في كل مكان شعاب، وصخور بحرية، وفي اليوم التالي تقدمت الزوارق إلى السفينة لنقل الحجاج وأمتعتهم، جدة مدينة جميلة، الطقس والبحر والمحلة المحيطة أثارت حالاً من الإجلال، وكانت الزوارق تتلوى طوال الوقت بين الصخور البحرية حتى الشاطئ، ورأينا عشرات الخيام وعدداً كبيراً من الشقادف والجمال والحمير، ورصيفين حقيرين مصنوعين من ألواح خشبية، مظللة بحصائر». احتجز الركاب في خيام الحجر الصحي، «وساءت حالتي من آلام في البطن، وعطش لا يروى، لم أستطع التخلص منهم طوال إقامتي في الحجاز، الماء طعمه مالح، ولا يوجد طبيب، كثيرون يذبحون الخراف بين الخيام، ولقضاء الحاجة يذهبون إلى شاطئ البحر». غادر الرحالة جدة إلى مكة راكباً حماراً ملتحقاً بطابور من الحجاج المغاربة ترافقهم خفارة خيالة، ولكنه يقول: «خشينا على مصيرنا، وليس معي سلاح، وأعرف أن الطريق خطر جداً، والمرافقون الله وحده يعلم من هم؟ وبين جدةومكة 9 استراحات فيها مقاهي». سارت القافلة إلى مكة في أقصى القيظ، وفي التوقفات تتوالى أخبار المخاطر التي تعرض لها الحجاج في اليوم والليلة السابقين، وقابل الضباط الأتراك شكاوى الحجاج ببالغ اللامبالاة، طاف وسعى على رغم أن رجليه كانتا متورمتين. في مكةالمكرمة استأجر الرحالة الروسي شقة رحبة تطل على المسجد الحرام، وعرف من معارفه أنه تم القبض على «كافر» في زمزم، وأنهم سيرسلونه لقنصلية بلاده بجدة، «كنت أتصور تعصباً أكبر»، ولفت نظره التكية المصرية التي توزع على المعدمين الطعام، ورأى سلبية الجانب الثقافي الذي لم يتقدم منذ ذلك الزمن المجيد، الذي كان العرب فيه يسيرون في طليعة الحضارة. في عرفة ألقى الإمام الخطبة على جمل، وبين خيام الحجاج ترتع الجمال وتتراكم بقايا الأغنام التي ذبحها الحجاج، ثم نفر إلى مزدلفة ومنها إلى منى التي أحصى فيها وجود ثلاثة أطباء، واحد مع الوالي واثنان مرسلان من القسطنطينية، وعرف أن أكثر الأمراض انتشاراً هو «أبو الركب» وهو ضرب من الأنفلونزاً. وبعد انتهاء النسك، بدأ في ترتيبات السفر إلى المدينةالمنورة، «كان عدد من قرر من الحجاج زيارتها قليل جداً، نظراً إلى مخاطر الطريق الكبيرة»، ونقل ما سمعه من فظائع، «منها أن أموال الحجاج الموتى تعود للمشرفين على الحجاج، وهم ينتظرون الأوبئة وخلافها بفارغ الصبر»، ولفت نظره في المدينةالمنورة «الحرية التي تتمتع بها النساء أكبر مما عندنا نحن التتر، وهن يشتركن في الصلاة في الجوامع، ويتاجرن بحرية». ومدح ما وجده من عطف وعناية وبالغ التهذيب من أهل المدينة، التي يوجد بها وقتها 31 عائلة من التتر، «منهم طلبة علم ومنهم مهاجرون جاؤوا ليموتوا هنا، وآخرون هاجروا لظروف معيشية مختلفة، وإذا ماتت زوجة واحد منهم عاد إلى روسيا للزواج منها، متجنبين الزواج من العربيات لإفراطهن في الطلبات».