بقيت مكة لأمد طويل مجهولة لدى الأوروبيين؛ بسبب منع وصول غير المسلمين إليها، ومن ثم كثرت الخرافات حول المدينة المقدسة في كتابات ما قبل العصر الحديث الأوروبية، حتى إذا انطلقت حركة الكشوف الجغرافية بُذلت جهود كبيرة للتنكر للوصول إليها، غير أن عدداً كبيراً من هؤلاء الزوار كُشف وصارت السلطات الحاكمة في مكة أواخر عصر سلاطين المماليك شديدة اليقظة؛ بسبب نشاط البرتغاليين البحري وتطلعهم للوصول إلى مكة لأهميتها التجارية والدينية. وعلى رغم ذلك نجح فارتيما في التخفي والوصول إلى مكة والتظاهر بالحج. ونتفق مع الدكتور عبدالرحمن الشيخ مترجم الرحلة للعربية بأن رحلة فارتيما هي المقابل البري لرحلة فاسكو دي غاما البحرية وكما نجح الأخير في كشف طريق رأس الرجاء الصالح فقد نجح فارتيما في كشف الطريق من أوروبا حتى الهند براً مروراً بحواضر المسلمين الكبرى وهو عمل شديد الخطورة مهد لخطوات استعمارية تركت أثراً بعيد المدى في تاريخ العالم الإسلامي أجمع. والحقيقة أن المعلومات عن شخص فارتيما قليلة ونادرة، ومما علم عنه أنه رحالة إيطالي، قام برحلة من أوروبا إلى الشرق في القرن السادس عشر. وخرج فارتيما في رحلته بتمويل من ملك البرتغال للقيام بهذه الرحلة بين عامي 908- 914ه (1503 - 1508م)، وذكر سبب خروجه في هذه الرحلة وهو: «أنه لما كانت كل البلدان مطروقة على نحو كبير بالنسبة إلى شعبنا، فقد فكرتُ في أنه يجب عليَّ أن أرى البلاد التي لم يرها أهل البندقية، أو لم يترددوا عليها كثيراً». خرج فارتيما من البندقية في إحدى سفن التجار متوجهاً نحو الإسكندرية ومنها وصل إلى القاهرة ثم عاد إلى الإسكندرية. من الإسكندرية نزل فارتيما إلى إحدى السفن منطلقاً نحو بيروت ومنها أخذ يتنقل بين المدن الشامية مثل طرابلس وحماة ثم وصل إلى دمشق، وفيها أخذ يخطط لطريقة التخفي والتنكر في ثوب حاج حتى يتمكن من الالتحاق بقافلة الحج الشامي التي تنطلق من دمشق قبل الحج بفترة كافية. بعد استقرار فارتيما في دمشق لفترة، تمكن من جمع معلومات حول قافلة الحج الشامي التي تنطلق كل عام من دمشق، وهناك تخفى في زي الحاج يونس المصري، وقام برشوة القائد المملوكي لرحلة الحج حتى ألبسه زي المماليك ومنحه جواداً حتى لا يتعرف عليه أحد، وخرج معهم إلى منطقة المزيريب التي تبعد ثلاثة أيام. ومنها إلى منطقة سدوم والبحر الميت. بعدها غاصوا في الصحراء حتى وصلوا إلى المدينةالمنورة ومنها إلى مكةالمكرمة. وهذا الطريق يتفق إلى حد كبير مع طريق الحج الشامي. وحدد فارتيما مدى الرحلة الزمني من المزيريب حتى مكة بأنه يستغرق أربعين يوماً وأربعين نهاراً، وأن القافلة كانت تتكون من 35000 جمل، و40000 حاج و60 من الحراس المماليك كان هو شخصياً من بينهم، وقد تركت هذه الرحلة كثيراً من الانطباعات على فارتيما، أهمها: حسن تنظيم وإدارة قافلة الحج، حيث لاحظ صرامة القائد المملوكي لحرس القافلة فهو أدرى بالطريق وطريقة تأمين القافلة وكيفية مواجهة الصعاب إذا ما واجهتهم، كما لاحظ وجود لغة إشارة يستخدمها قائد القافلة وأن جميع من في القافلة لديهم قدرة على تمييز هذه الإشارات وتنفيذها حال صدورها. لاحظ أيضاً امتثال الجميع لأوامره من حيث نظام القافلة، وأخيراً معاونة القادرين على القتال من الحجاج لحرس القافلة في حالات الضرورة. وفي ما يتعلق بمخاطر الطريق، لاحظ أن العشائر البدوية غير المنظمة ألفت مهاجمة قوافل الحج؛ بغرض الحصول على اتاوات بزعم أن المناطق التي يقيمون فيها هي أملاكهم الخاصة ومن يمر بها عليه أن يدفع مقابل ذلك، وإلا تعرضت قافلته للنهب وبخاصة إذا كانت قليلة التأمين. ومما لاحظه فارتيما على الجماعات المهاجمة أنه على رغم كثرتها إلا أنها غير منظمة، وفقيرة التسليح وبالتالي كان عدد ضحاياهم من الهجوم على القوافل بخاصة جيدة التسليح كبيراً جداً. ففي معركة نشبت بين قافلة فارتيما المحمية ب60 مملوكاً، لم يخسر الحجاج أكثر من رجل وامرأة بينما فقد البدو 1600 قتيل، كما نشب قتال بين حرس القافلة والبدو بين المدينةومكةالمكرمة وتغلب القائمون على حراسة القافلة على المهاجمين بسهولة. ومن أهم ملاحظات فارتيما، ما ذكره حول مصادر المياه بالطريق التي تنوعت بين الحفر في التربة الرملية أو الطينية إذا صادفتهم أو الحصول على الماء من أحواض المياه التي أقيمت بغرض الصدقة من المحسنين في هذه البقاع القاحلة. وحين وصل فارتيما إلى المدينةالمنورة، اهتم اهتماماً بالغاً بوصفها، غير أنه ردد عدداً من الخرافات، منها عرض غريب من قائد الرحلة المملوكي لرشوة حارس قبر النبي لدخول القبر غير أنه لم يفلح. وقد وصف المسجد النبوي وذكر أن طوله يبلغ مئة خطوة طولاً وثمانين خطوة عرضاً، ويوجد بابان في كل جهة من جهاته الثلاث، أما جهته الرابعة فلا أبواب فيها، وسقفه مقوس وبه أكثر من 400 عمود مطلية باللون الأبيض وبه حوالى 300 مصباح وعند رأس المسجد ناحية اليمين يوجد برج مربع يبلغ طول كل ضلع من أضلاعه خمس خطوات، وقد غطّيَ بالحرير وعلى بعد خطوتين حاجز معدني مشبك جميل، يقف الناس إزاءه لرؤية هذا البرج، وفي الجانب الأيسر من هذا الحاجز يوجد باب صغير يفضي إلى البرج ويوجد في هذا البرج باب صغير آخر وعند أحد البابين يوجد حوالى عشرين كتاباً وعند الجانب الآخر خمسة وعشرون كتاباً وتتناول هذه الكتب جميعاً حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) ووصايا الدين الإسلامي، ويوجد إلى الداخل من هذا الباب الثاني قبر محمد وعلي وأبي بكر وعثمان وعمر. أما مكة فقد وصفها فارتيما بأنها ذات الشرف الباهر، وأنها مدينة رائعة الجمال، بناؤها منظم ومنازلها جيدة مثل منازل إيطاليا، وسعر المنزل فيها يعادل ثلاثة أو أربعة آلاف من الدوكات. كما لم يكن يحيط مكة سور مثل القاهرة أو الإسكندرية، غير أن الجبال تقوم مقام الأسوار حيث تحيط بها من الجهات كافة. وأن في جنوبمكة جبلين متقاربين كأنهما بوابة. ويقترب وصف فارتيما من وصف ابن بطوطة الذي ذكر أن مكة مدينة مستطيلة متصلة البنيان تحف بها الجبال من كل الجهات وإن زاد عليه بذكر الجبال محيطة بمكة بأسمائها، كما سمى مداخل مكة الثلاثة من الشمال باب المعلى ومن الغرب باب الزاهر ومن الجنوب باب السفل من جهة الجنوب. وصف فارتيما جفاف البقاع المحيطة بمكة حيث لا ينبت بها زرع ولا شجر. كما تعاني المدينة من نقص الماء، وأكد أن الحصول على الماء فيها مكلف جداً. وتحدث عن اقتصاد مكة قائلاً: «وأن ما تحتاجه المدينة يأتي من أماكن بعيدة مثل القاهرة من خلال البحر الأحمر وميناء جدة وكذلك من بلاد اليمن أو بلاد العرب السعيدة كما سماها بتس. كما تصل البضائع من الهندوأثيوبيا وفارس. ومن هنا كثرت البضائع في مكة حتى توافد عليها عدد كبير من أناس جمعوا بين الرغبة في الحج والتجارة». وعدَّد فارتيما أنواع المتاجر التي ترد إلى مكة ومن بينها كميات كبيرة من الواهر ترد من الهند بجانب كل أنواع البهار التي ترد من أثيوبيا والبنغال، وأيضاً كميات كبيرة من الأقمشة القطنية والحريرية، وعبر مكة «تتم تجارة مرور كبيرة في المجوهرات والبهارات بأنواعها المختلفة، والقطن بكميات كبيرة والشمع والمواد العطرية»، وينتشر داخل المسجد الحرام 4000 أو 5000 تاجر من الرجال والنساء يبيعون مختلف أنواع العطور ومساحيق حفظ الأبدان. كان وصف فارتيما للمسجد مقتضباً، حيث ذكر أنه في وسط مكة يوجد معبد جميل يشبه الكولوزيوم في روما إلا أنه غير مبني من الحجارة الضخمة وإنما من الطوب الأحمر، وله تسعون باباً أو مئة باب، ذات أقواس. كما وصف الكعبة بأنها برج Tower مربع كل ضلع من أضلاعه من أربع إلى ست خطوات. وقد غطى هذا المبنى بالحرير الأسود، وبه باب من الفضة الخالصة بارتفاع قامة الإنسان عن طريقه يمكن دخول الكعبة، وعلى جانبي الباب جرتان يقال إنهما مليئتان بالبلسم من إهداء السلطان. وعند كل ركن من أركان الكعبة توجد حلقة كبيرة. كما ذكر أن الكعبة مكسوة بكسوة من الحرير الأسود وأفاض في وصف الكسوة وأنها مزينة بنصوص من تعاليم الإسلام، إلا أنه لم يتمكن من قراءتها. كما لم يفته الحديث عن سطح الكعبة والميزاب الموجود لتفريغ ما يسقط عليها من أمطار وكيف يسعد زوار مكة بما يسقط من الميزاب من ماء بل هناك من يجمعه ويبيعه للزوار على سبيل التبرك. واهتم فارتيما بوصف زمزم، وقال إنه على بعد عشر خطوات أو اثنتي عشرة خطوة من الكعبة يوجد برج يشبه إحدى مصلاة كنائسنا أو كاتدرائياتنا، ذو أبواب ثلاثة أو أربعة داخله بئر رافعة، وماؤها مالح قليلاً. وعند هذه البئر سقف ستة رجال أو ثمانية لسحب المياه للناس. وعندما ينتهي الناس من الطواف يقولون :»بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم اغفر لنا»، ويقومون بسحب الماء من زمزم ويصبون ثلاثة جرادل على كل شخص، فيستحم الجميع. «وإذا كان فارتيما دقيقاً في وصف الأماكن إلا أنه لم يهتم بالمناسك الاهتمام نفسه... بعدها أكمل طريقه نحو الهند عبر اليمن وفارس ودوَّن ذلك في كتابه «رحلات فارتيما».