أضاءت مهرجانات بيت الدين هذا العام شمعتها الثلاثين. 30 سنة لم تكن سهلة لإيصال هذا المهرجان الى هذا المستوى من المهنية، ولاستقطاب أهم نجوم الموسيقى والغناء والمسرح والأوبرا من العالم. 30 سنة مرّ خلالها لبنان ولا يزال بحروب منفصلة متّصلة، ولم يكن همّ غالبية الناس إلا النجاة من الموت والجوع، ولو أن اللبنانيين يخترعون وقتاً للفرح والرقص والترفيه. لكن، ليس سهلاً على أي مؤسسة أن تستمر وتستقطب نجوماً عالميين وجمهوراً من البلدان العربية، في ظلّ أوضاع أمنية مرتبكة. وهنا، تكمن أهمية مهرجانات بيت الدين التي استطاعت، على رغم كل الطلعات والنزلات، أن تصمد وتتطوّر لتصبح منتجة لأعمال فنية لبنانية وعربية وليس مستضيفة فحسب. لقد كثرت هذه السنة المهرجانات في لبنان، وكل مهرجان يحاول استضافة نجوم أكثر شهرة من المهرجان الآخر. ولكل مهرجان برنامج جيد وفريق عمل مهني يعمل بجهد، لكن الأهم من استضافة الفنانين الأجانب، التأسيس لقاعدة فنية لبنانية. وهذه القاعدة تبدأ بدعم الإنتاج الفني اللبناني ليتطوّر ويخطو خطواته نحو العالمية. فغالبية الأعمال اللبنانية التي يسطع نجمها محلياً وعالمياً، تعتمد على مبادرات فردية أو دعم مؤسسات ثقافية أجنبية. وهناك جيل واسع من الشباب الموهوب الذي لا يلقى دعماً لإنتاج عرض أو إصدار أسطوانة. لذا، يُحسب لمهرجانات بيت الدين التي أنتجت أعمالاً مثل «ألف ليلة وليلة» لكركلا و «حكم الرعيان» للرحابنة، إضافة الى حفلات كثيرة لمارسيل خليفة وكريمة الصقلي وأمال ماهر وغيرهم، التوجّه هذا العام الى الشباب وتحديداً لإنتاج عرض مسرحي هزلي غنائي راقص بعنوان «بار فاروق» للمخرج هشام جابر. المواهب الشابة وفي حديث إلى «الحياة»، تقول رئيسة المهرجان نورا جنبلاط: «عندما شاهدت عرض «هشّك بشّك» لهشام جابر على مسرح «مترو المدينة»، أدهشني وفوجئت بالفكرة والطرح والتركيبة أو الصيغة التي تتناول المسرح الشعبي ومسرح الكباريهات في مصر بين الثلاثينات والستينات، وهي مرحلة تفاعل معها لبنان وتأثر بها ثقافياً وسياسياً... العرض فيه جرأة كبيرة وفكاهة وغناء». تعرّفت جنبلاط الى هشام جابر الثلاثيني وحيّته على هذا العرض المستمر منذ أكثر من سنتين، وسألته هل بإمكانه إخراج عرض خاص بمهرجانات بيت الدين. وافق المدير الفني وأحد مالكي مسرح «ميترو المدينة» المتخصّص بالفنون الشعبية والأندرغراوند، والذي سطع نجمه كنوع لم نعد نراه في بيروت وهو مسرح الكباريه. ولكن، أليست مغامرة أن يتبنى مهرجان عريق عرضاً لم يره؟ تجيب جنبلاط: «نحن عادة لسنا مغامرين، ولكننا آمنّا بقدرة هؤلاء الشباب على الإبداع، خصوصاً بعد «هشك بشك» الذي يعرض منذ أكثر من سنتين متواصلتين ولا يزال يستقطب جمهوراً واسعاً. وتركنا الحرية للشباب لأننا نؤمن بمواهبهم وعلينا أن ندعمهم ونشجّعهم عملياً، ولو أن العرض ينتمي الى المسرح الهزلي غير الواقعي». وتؤكد جنبلاط أن «هذا الإنتاج الذي بدأناه كرعاة لمهرجان «Bipod» للرقص المعاصر، ونرسّخه مع «بار فاروق»، سيصبح تقليداً سنوياً لأعمال لبنانية. وهنا تقرّ بأن الإنتاج مهمة صعبة في بلد يعاني من أوضاع أمنية غير مستقرة تخبّئ كثيراً من المفاجآت غير السارة التي قد تلغي عرضاً في أي لحظة، وبالتالي يهدر الوقت والجهد والتمويل من دون جدوى. إضافة الى أن الإنتاج، وفق جنبلاط، «يحتاج الى تجميد أموال مسبقاً لتأمين الدعم المادي للعمل، وذلك قبل بداية التفكير في تنفيذه. ونحن كمؤسسة غير حكومية لا تتوخى الربح، ميزانيّتنا تتألف من 3 أجزاء: وزارة السياحة، البطاقات، والمعلنين. وآلية مساعدة الوزارة في طريقة دفع الأموال بطيئة، وأحياناً لا نتلقى إلا 17 في المئة من الميزانية، في حين عليها أن تدفع 33 في المئة. وتأتي الدفعات متأخّرة سنتين، فنحن الآن لم نتسلّم دفعات العام 2013. هذا الوضع المرتبك في تأمين الميزانية لا يقلّ أهمية عن الوضع الأمني». تحية لرواد الأغنية المدينية المنسيين بعد مصر التي نقل أجواءها الغنائية في عرض «هشك بشك»، وصل المخرج والكاتب المسرحي اللبناني هشام جابر الى بيروت ليغوص في أجواء مسارحها وأغانيها والموسيقى التي كانت رائجة بين ثلاثينات القرن العشرين وسبعيناته. بيروت التي تتأثر بالتغيرات السياسية للمنطقة العربية ككل، وبالتغيرات الثقافية أيضاً، هي محور عرض «بار فاروق» (يفتتح غداً ويستمر لثلاثة أيام) الذي ينتمي الى مسرح الكباريهات الهزلي الغنائي الراقص. ليست بيروت بوجهها المشوّه اليوم، ولا بيروت المقسّمة سياسياً واجتماعياً وعمرانياً، بل «بيروت الحقيقية كما أراها من خلال أغنيات لبنانية مدينية أقرب الى الواقع ونبض الشارع وتطوّره كرونولوجياً»، كما يقول جابر الذي في كل مرّة يطلّ فيها على الجمهور اللبناني، يبهره بأفكار مبتكرة وفريدة مسرحياً. ويضيف صاحب «غير مخصص للجمهور العريض»، أنه أراد «تناول بيروت الكوزموبوليتية والسياحية والقائمة على التغيّرات السياسية في المنطقة وتأثرها بمحيطها وبالعالم، والتي بدورها تؤثر في الإنتاج الثقافي». ومن الطبيعي أن يذهب جابر الى مكان صار مجهولاً لأبناء جيله، وهو الأغنية المدينية اللبنانية التي لم تأخذ حقّها ولم تنتشر عربياً كما انتشرت الأغنية الجبلية، فاندثرت مع مرور الوقت. ففي العرض الذي يعتبره تحية الى رواد هذه الأغنية، يستعيد 24 أغنية مدينية لكل من عمر الزعني ونقولا المنّي وعبدالجليل وهبي وسامي الصيداوي ووداد وكهرمان وطروب ومحمد جمال ونجاح سلام وشوشو وفريال كريم وغيرهم، إضافة الى 5 أغنيات كتبها بنفسه فيها هذا الجو الساخر والمسلّي و«الإنترتاينمنت السياسي». أما الشخصيات، فتتنوّع بين القبضاي الشهم والأزعر، وبائعات الهوى والفتاة الصغيرة المغلوب على أمرها التي اضطرت للعمل كداعرة، والراقصة والقوادة والمطرب والموسيقيين، وبائع المشروبات. وهي شخصيات ابتدعها لتحكي قصصاً تتعلّق ببيروت القديمة وتخلق نوعاً من المرح والتسلية في جو غنائي راقص، يسود عادة في مسرح الكباريهات. وهذه الحكايات تطلّ من شبابيك بيروت التي تعرض من خلالها أفلام «فيديو آرت» ثلاثية الأبعاد أخرجها نديم صوما، لتعرض تطوّر المدينة عبر الزمن.