في ظلّ كل ما يعيشه اللبنانيون من ضغوطات اقتصادية ونفسية يومية، أقلّ ما يمكن توقُّعه أن تنعكس في سلوكياتهم وأفكارهم وتعابيرهم أيضاً. ففي وقت يؤدي اللااستقرار النفسي إلى ارتكاب بعضهم جرائم أو اقتراف مشكلات من دون أي سبب يستحق ذلك، يجد آخرون في التعبير اللفظي الوسيلة الأفضل لإظهار كلّ ما يختلجهم من مشاعر غاضبة وأحاسيس مكبوتة. فمع اشتداد الأزمات المتلاحقة سياسياً واقتصادياً، تتسارع وتيرة انتشار ظاهرة السبّ والشتم في مختلف الأماكن، من الطرق والأزقة إلى الملاعب والأسواق وصولاً الى المدارس، ولم تستثنِ أياً من الفئات الاجتماعية. وأبلغ مثال على ذلك، القيادة في زحمة السير اليومية على الطرق اللبنانية، حيث يمكن سماع مختلف أنواع الشتائم سواء الموجّهة إلى «الدولة» أو الشخص الآخر الذي يقود سيارته أيضاً ويجد نفسه عالقاً في الزحمة. لكن الحاجة إلى صبّ الغضب على أي شخص تجعل هذا الآخر عدوّاً لا بدّ من مواجهته وإبعاده من الطريق، ولو اضطر الأمر للجوء الى الحركات النابية حين لا تعود الشتيمة تنفع. وربما تبدو هذه الظاهرة أمراً طبيعياً لكثر، فالسب والشتم من الأمور التي يقوم بها الإنسان منذ زمن بعيد وليسا أمراً طارئاً، لكنّ هذه المقاربة سطحية للغة الشارع التي تسود بين المواطنين أكثر فأكثر، لتجمع بين الإشارات والإيماءات والصراخ والشتم والبصق وغيرها من السلوكيات للتعبير عن أزمة أخلاقية – نفسية لا يمكن التغاضي عنها. قاموس يومي إذا كانت الشتيمة باتت من أسهل التعابير التي يمكن التلفّظ بها مهما كان المكان علنياً، فهذه الظاهرة ليست من دون أسباب تعزّز من انتشارها لدى مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية. فوفق الاختصاصية في علم النفس سناء سيف، يمكن الربط بين تجذّر ثقافة الشتم والسب عند الشخص وحالته الاجتماعية وتجربته الحياتية والمشكلات التي يتعرّض لها، ونجاحاته وفشله، إضافة إلى علاقاته الاجتماعية ومدى تأثّره بالعادات والقيم والأخلاق والدين أيضاً. وتشير سيف إلى تنافر في المجتمع اللبناني منذ الحرب الأهلية، استمر واشتدّ مع الضغوطات النفسية التي يتعرّض لها اللبنانيون، ما يؤدّي إلى حالة من عدم التوافق النفسي والتعصّب والعداوة والعنف، على رغم أنّ لا علاقة شخصية تربط غالباً بين الشخصين اللذين يشتمان بعضهما بعضاً في مكان عام. وتفرّق سيف بين أنواع الشتم، فهناك السب العادي الذي يعبّر عن احتقان داخلي ومحاولة لنفي الآخر وتصغيره. لكن هناك أيضاً السب الأيديولوجي الذي يرتكز على أفكار مسبقة معيّنة نمتلكها عن الآخر، مثل شتمه بسبب لونه أو انتمائه الديني أو حتّى شتم المنطقة التي ينتمي إليها، وهذه حالة سائدة في لبنان مع ضعف الحسّ الوطني. كما تلفت إلى الشتم الطبقي الذي يزيد مع اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء في لبنان، حيث يمكن للغني أن يعطي لنفسه الحق بشتم الشخص الذي يجده فقيراً وتحقيره فقط لأنّه يملك المال، في ظلّ غياب العدالة الاجتماعية. ومع اجتماع هذه الأنواع من الشتم والسب، يتبيّن أن الكلمات غير الأخلاقية مع الحركات البذيئة أصبحت جزءاً من القاموس اليومي لفئة كبرى من اللبنانيين، ومن الأمور الاعتيادية التي يمكن القيام بها من دون أي محاسبة. للأطفال نصيبهم أيضاً «من شبّ على شيء شاب عليه» هكذا يقول المثل الشعبي، وهذا ينطبق تماماً على ثقافة الشتم والسب التي بات الجيل الجديد ينشأ عليها في لبنان، بدءاً من المنزل حيث تكون النزاعات العائلية الفتيل للتلفّظ بمختلف الكلمات البذيئة للشريك، وصولاً إلى الشارع حيث يسمع الأطفال ألفاظاً يحفظونها ويرددونها ليفاجئوا أهلهم أحياناً بما يقولونه. وهنا تشير الاختصاصية التربوية سمر حلواني، إلى عمق هذه المشكلة التي باتت تعاني منها المدارس، فلم يعد هناك شيء يردع الطفل عن التلفّظ بالكلمات النابية لأنّه يسمعها في محيطه، فيعتبر أنّ لا سوء في قولها حتّى عند التوجّه إلى الأساتذة أحياناً. وأكثر ما يثير القلق وفق حلواني، هو الغبطة التي يعبّر عنها بعض الأهالي حين يستدعون من إدارة المدرسة للمراجعة حول الشتم، فيعتبرون أنّ طفلهم أصبح صلباً وقوياً بقدرته على السب وتحقير الآخر، وهكذا يمكن أن يدافع عن نفسه! لذا، تشدّد حلواني على ضرورة إعادة الانضباط إلى المنزل الأسري، الذي يشهد تفككاً كبيراً مع غياب سلطة الأهل وترك الطفل على سجيّته لقبول كل ما يأتيه من محيطه، من دون أن يكون هناك من يردعه عن قول كلمات نابية أو القيام بتصرفات خاطئة ومهينة للآخرين. وتلفت حلواني إلى أهمية التحكّم بما يتلقاه الطفل من الوسائل الإعلامية، خصوصاً مع انتشار البرامج التلفزيونية التي تُسمَّى بالكوميدية فيما هي مزيج من الشتم والسب واستخدام الألفاظ النابية والإباحية.