الأزمة المالية والاقتصادية اليونانية أصبحت عصيّة على فهم الكثيرين بسبب المعلومات الكثيرة والمتضاربة حولها في الصحف المحلية والدولية، بينما خيوطها العريضة ليست صعبة التفكيك حتى لغير الخبراء الإقتصاديين والماليين وهذا ما سأحاوله في هذه المقالة: يقاس عبء الدين عادة بنسبته للناتج المحلي الخام مثلما أن عبء الدين على أي شخص يتوقف على نسبة هذا الدين من مدخوله. (كما يتوقف طبعاً على مستوى الفائدة على الدين وأشياء أخرى سنتركها جانباً). نسبة الدين اليوناني إلى الناتج المحلي بلغت في آخر السنة الماضية 177 في المئة، وهي ثاني أعلى نسبة في العالم بعد اليابان (230 في المئة). وهي لا تتجاوز بكثير النسبة نفسها في لبنان (134 في المئة). غير أن المقارنة مع اليابان أو لبنان غير سليمة لأسباب عدة لا مجال هنا للدخول فيها. كيف وصلت اليونان إلى الأزمة؟ دخلت اليونان إلى «منطقة اليورو» عام 2001، أي بعد عشرين سنة من دخولها الاتحاد الأوروبي. رغم ذلك، يُجمع الخبراء على أن اليونان لم تكن استوفت شروط الدخول إلى منطقة اليورو في حينه، ويذهب البعض إلى اتهامها بالخداع وتخبئة مستوى دينها العام في طلبها دخول المنطقة. سمح دخول اليونان إلى منطقة اليورو بالإستدانة الرخيصة نسبياً فاستدانت في شكل كبير ولأهداف لا تخولها في كثير من الأحيان سداد القروض. فالحكومات المتتالية في اليونان كانت غارقة بالفساد وتنفق الأموال على مشاريع وهمية أو لغير أهدافها المعلنة. في كتاب صدر بالإنكليزية هذه السنة بعنوان «الكارثة الكاملة: أسفار بين الأطلال اليونانية الجديدة» يوثّق الكاتب، جايمس أنجيلو، من خلال مشاهداته على الأرض، هذا الفساد بشكل واقعي ودرامي. على سبيل المثال، يتكلم أنجيلو عن جزيرة زاكينثوس الملقبة بجزيرة العميان حيث 2 في المئة من السكان يحصلون على مساعدات حكومية بسبب العمى، وهي نسبة تتجاوز بتسع مرات المعدل العام في أوروبا، وذلك نتيجة لمخطط احتيال اكتشفه الكاتب منظّم من قبل طبيب العيون الوحيد في المستشفى هناك بالإشتراك مع المسؤول الصحي الرسمي، ما يكلف الحكومة ملايين الدولارات سنوياً. وفي الإحصاءات الرسمية الأوروبية فإن تكلفة النظام الصحي اليوناني نسبة للناتج المحلي تتجاوز بأكثر من سبعين بالمئة المعدل الأوروبي. ينطبق هذا على معظم المساعدات الحكومية، وبخاصة على تلك الخاصة بالتقاعد، التي شكلت محوراً مهماً في المفاوضات الأخيرة بين الترويكا (الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) والحكومة اليونانية. فسن التقاعد مثلاً مبكرة للجميع وبخاصة لل 580 وظيفة التي صنِّفت خطرة أو شاقة حيث يتقاعد الشخص في الخمسينات من العمر. من ضمن هذه الوظائف مثلاً وظائف حلاقي النساء والرجال بسبب «مشقة» الوظيفة. وبحسب إحصاءات أكبر اتحاد عمالي يوناني فإن معدل المعاش التقاعدي بلغ 1350 يورو عام 2009 ولكنه خفِّض اليوم إلى 833 يورو. ومن اللافت أن نسبة المتقاعدين بين الفئة العمرية 55 إلى 64 سنة بلغت عام 2011 أربعين في المئة. أضف إلى ذلك أن نسبة كبار السن (65 سنة وما فوق) في اليونان مرتفعة نسبياً بسبب انخفاض الخصوبة وتبلغ اليوم حوالى 20 في المئة من مجموع السكان (في لبنان حوالي 9 في المئة) ما يضيف إلى مشاكل النظام التقاعدي الذي أصبح غير قابل للإستمرار في حالته الحاضرة. أما التهرب من الضرائب فحدث ولا حرج. فقد قدرت دراسة للاتحاد الأوروبي بأن الضرائب الإستهلاكية غير المدفوعة تبلغ حوالى 10 مليارات يورو سنوياً كما قدرت دراسة أخرى قام بها أكاديميان أميركيان بأن ضرائب العاملين على حسابهم الخاص غير المدفوعة بلغت عام 2009 حوالى 28 بليون يورو. ما العمل وكيف؟ كل الدول التي لديها دين كبير تحاول في المرحلة الأولى إيقاف تصاعده، أي تجميده، وهذا لا يحصل إلا إذا كان الفائض في الجزء الأول من الموازنة يعادل خدمة الدين. بمعنى آخر، أن يكون لدى الدولة فارق بين مدخولها ومصروفها السنوي يوازي ما يجب أن تدفعه سنوياً للدائنين كفائدة على الدين. بعد ذلك أي فائض إضافي يذهب إلى تخفيض قيمة الدين إي إلى تسديد الأصول. يختلف الاقتصاديون حول الطريقة التي يجب اتباعها للوصول إلى هذه الأهداف وينقسمون إلى قسمين أساسيين ظهرا خلال المفاوضات الأخيرة بشكل واضح. الطريقة الأولى هي الطريقة التي اتبعتها المانيا في المفاوضات والثانية هي التي نصح بها بعض كبار الاقتصاديين أمثال بول كراغمان وجوزيف ستيغليتز، الحائزين على جائزة نوبل للإقتصاد. ما سمّيناه الطريقة الألمانية تتلخص بأن تشدّ الحكومة اليونانية حزامها فتخفض المساعدات، وترفع سن التقاعد وتلغي معظم الدعم الذي تقدمه للمواد الغذائية الأساسية حتى تصل إلى فائض في الجزء الأول من الموازنة يسمح لها بتسديد خدمة الدين ثم البدء بتسديد الأصول. الطريقة الثانية هي عكس الأولى وهي أن تزيد الدولة من استثماراتها الإقتصادية ولو اضطرت لزيادة ديونها لتنعش الاقتصاد فيزداد مدخولها ما سيسمح لها بالحصول على فائض في الموازنة يخولها البدء بسداد الفوئد على الدين في شكل متصاعد. هي إذاً الطريقة المثلى لتجميد الدين ومن ثم تقليصه؟ كل شيء يتوقف بالدرجة الأولى على مدى عبء الدين. فإذا كان العبء كبيراً جداً فإن شد الحزام المطلوب قد يتسبب بتراجع في الأقتصاد، ومن ثم في مدخول الحكومة، يتجاوز ما وفّرته إجراءات شد الحزام، فتذهب الأمور من سيء إلى أسوأ، أي بالاتجاه المعاكس لما تريده الدولة، أقله لسنوات عدة من المعاناة، بخاصة بالنسبة للطبقات المتوسطة والضعيفة في المجتمع. هذا ما حصل في اليونان نتيجة سياسة التقشف التي فرضتها الدول والمؤسسات الدائنة. عندما بدأت الأزمة المالية العالمية عام 2007 كان نمو الناتج المحلي اليوناني يبلغ 3.5 في المئة سنوياً، إنخفض بسبب الأزمة ألى أقل من الصفر عام 2008 ثم انخفض مجدداً إلى ناقص 4.4 في المئة العام التالي. وفي الأعوام الأربعة الأخيرة، اي بعد بدء سياسة التقشف التي فرضتها الترويكا بدءاً من عام 2010، انخفض النمو ألى -5.4 في المئة عام 2010 ثم إلى - 8.9 في المئة عام 2011 ثم إلى - 6.6 في المئة عام 2012 إلى أن بدأ بالتحسن بعدها فوصل إلى - 3.9 في المئة عام 2013 و- 0.8 في المئة عام 2014. وفي ذلك العام أصرت ألمانيا على زيادة التقشف، خصوصاً الخفض الإضافي لمساعدات المتقاعدين وغيرها فحصلت المواجهة بين الترويكا بقيادة ألمانيا واليونان خسرتها الأخيرة وقبلت القيام بإلإجراءات التقشفية الإضافية ما جعل المؤسسات المعنية تخفض من تقديراتها لنمو الاقتصاد اليوناني لهذا العام من 2.5 في المئة إلى نمو سلبي. بمعنى آخر، عندما بدأت الأمور تتحسن في اليونان بعد عذاب طويل، فرضت الترويكا بقيادة ألمانيا إجراءات تقشفية إضافية أعادتها إلى الكساد الإقتصادي الذي عانته لأربع سنوات من التقشف. يقول بول كراغمان في «نيويورك تايمز» في هذا الصدد: «إن معظم ما تسمعونه عن إسراف وتبذير وعدم مسؤولية اليونانيين غير صحيح. نعم، فالحكومة اليونانية كانت تصرف أكثر من طاقتها في أواخر القرن الماضي ولكن منذ ذلك الحين خفضت من مصروفها ورفعت مستوى الضرائب. الوظائف الحكومية انكمشت بأكثر من 25 في المئة، وأجور التقاعد السخية خفضت في شكل حاد. هذه الإجراءات مجتمعة كانت أكثر من كافية لإزالة العجز وتحقيق فائض كبير. لماذا لم يحدث ذلك؟ لأن الإقتصاد اليوناني انهار نتيجة إجراءات التقشف التي فرضتها الترويكا والتي خفضت كثيراً مداخيل الحكومة». كروغمان وستيغليتس نصحا باتباع الطريقة الثانية لمعالجة الأزمة أي رفع مستوى الإستثمارات الحكومية ولو بزيادة الدين لإنعاش الإقتصاد وتمكينه من سداد الدين في شكل أفضل. ولكن هل هما متأكدان من نجاح هذه الطريقة؟ ليس بالكامل ولكنهما يعتبران أن هذه الطريقة هي أفضل من التقشف الصارم الذي فرضته الترويكا بحسب قولهم. يعتقد الكثيرون، ومنهم صندوق النقد الدولي، بأن الدين اليوناني كما هو اليوم غير قابل للسداد ويقترحون لذلك بأن يصار إلى إعفاء اليونان من قسم من الدين، 20 إلى 30 في المئة، لكي يصبح قابلاً للتحكم به. وإذا لم يحصل ذلك فكلا الطريقتين ستتسببان بسنين إضافية من الكساد الاقتصادي والمعاناة الاجتماعية قد تنتهي، على كل حال، بتخلف اليونان عن سداد الدين بسبب حجمه الكبير. رغم ذلك فإن الألمان لا يقبلون بالإعفاء الجزئي المقترح، وكذلك معظم دول منطقة اليورو بسبب تخوف حكوماتها من تقوية المعارضة المتنامية لديهم لترك منطقة اليورو ولربما أيضاً الإتحاد الأوروبي كما أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة في بعض هذه الدول بما في ذلك بريطانيا. ولكن مما لا شك فيه هو أن الدول الأوروبية التي لم تدخل منطقة اليورو بعد ان بدأت تتردد أو تتريث بالدخول بعد الذي حصل مع اليونان في مفاوضاتها الأخيرة مع الترويكا. العودة الى الدراخما بعض الحل في الحالات المماثلة لليونان، يقول كراغمان، هو أن يصار إلى خفض قيمة العملة المحلية كما فعلت دول نجحت في الخروج من أزمات مماثلة. ولكن ذلك ليس باستطاعة اليونان أن تفعله لأنها في منطقة اليورو وليس بامكانها تغيير سعر صرفه. لذلك يقترح كروغمان كما ستيغليتز بأن تفك اليونان ارتباطها باليورو (وليس بالاتحاد الأوروبي) وتعود إلى عملتها الأصلية الدراخما التي تستطيع التحكم بها. ورغم الصعوبات التي ستواجهها فإنها، بحسب كراغمان، ستستطيع في النهاية ترتيب أمورها المالية والتنموية في شكل أفضل ولمدة أطول. بمعنى آخر، فالخيار أمام اليونان في هذه الحال هو إما البقاء مع اليورو وتحمّل سنين عجاف إضافية من الممكن أن تنتهي على كل حال بالعودة إلى الدراخما، وإما العودة إلى الدراخما حاضراً وتحمّل سنين عجاف تنتهي بتحكم أفضل بمالية الدولة كما كانت الحال قبل الإنضمام إلى منطقة اليورو. لا بد في النهاية من الإشارة إلى أن المواجهة الحادة بين ألمانيا واليونان، بل بين المستشارة الألمانية أنغيلا مركل و رئيس الوزراء اليوناني اليكسيس تسيبراس، تعكس نوعاً من صراع الثقافات داخل الاتحاد الأوروبي، بين دول الشمال الصارمة ودول الجنوب المتساهلة، التي تظهر إلى الواجهة بين الحين والآخر، وستبقى بلا شك موضوع احتكاك في المستقبل المنظور. ولعل أفصح وصف لهذا الصراع جاء في كلمات كتبها الروائي والفيلسوف اليوناني نيكوس كازانتزاكيس لزوربا اليوناني عندما قال هذا الأخير في الفيلم الشهير المقتبس من الرواية: «انظر، ذهبت يوماً إلى قرية صغيرة. كان هناك جدٌّ يبلغ التسعين من العمر مشغول بزراعة شجرة لوز. ما هذا يا جد! قلت متعجباً. تزرع شجرة لوز؟ فاستدار إليّ بقامته المنحنية وقال: يا بني، إنني أعمل وكأنني لن أموت أبداً. فأجبته: وأنا أعمل وكأنني سأموت بين دقيقة وأخرى. من على حق يا سيدي؟» * رئيس مركز الدراسات والمشاريع الإنمائية (مدما) - بيروت