تمر اليونان بأزمة «اقتصادية» حقيقية، حتى وان كان مصدرها «مالياً» بحتاً. ومما يزيد عجز حكومة اليونان عن حل أزمتها قد يكون عضويتها في «الاتحاد الاقتصادي الأوروبي»، وأيضاً، على خلاف بريطانيا، عضويتها في «الاتحاد الأوروبي النقدي». أي انها تخلت عن عملتها الوطنية وتستخدم «اليورو» كبقية دول الاتحاد الأوروبي ما عدا بريطانيا التي انضمت الى «الاتحاد الاقتصادي الأوروبي»، واحتفظت بعملتها الوطنية «الإسترليني». وقبل حدوث الأزمة المالية التي أشعل فتيلها «لصوص» نيويورك، كانت الحكومة اليونانية تقترض الفرق بين مجموع دخلها ومجموع نفقاتها، أملاً في أن يستمر نموها الاقتصادي فيؤدي الى تضاؤل ديونها العامة كنسبة من قيمة الناتج الكلي (G D P). والطريقة التي حصلت اليونان بموجبها على تمويل عجز موازنتها السنوية، هي إصدار سندات باسم الدولة اليونانية أو ما يُسمى سندات «سيادية». والسندات السيادية في العادة تيسر الحصول على القروض بتكاليف اقل من تكاليف قروض منشآت القطاع الخاص. ومشكلة اليونان بدأت بعد الأزمة المالية التي أدت الى تراجع عالمي شمل كل دول أوروبا وكان الأسوأ في دول كاليونان واسبانيا والبرتغال والى درجة اقل ايطاليا مقارنة ببقية دول شمال وغرب أوروبا. وتدريجياً زاد «دين اليونان العام» حتى وصل الى ما وصل إليه الآن، وهو نحو 13 في المئة من اجمالي الدخل الوطني. وهذه نسبة عالية لا تتجاوز ما تقضي به ضوابط البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي الاقتصادي والنقدي، وهي نسبة تهدد بإفلاس الحكومة اليونانية وتحويل صكوك ديونها الى «خردة» (*) قليلة القيمة فيتعذر عليها الاقتراض بتكاليف معقولة. يقول أستاذ الاقتصاد الشهير في جامعة هارفارد، مارتن فيلدشتاين، في مقالة نشرتها «الفايننشال تايمز» (16/2/2010) ونشرتها «الاقتصادية» السعودية في 30/4/2010 ما ملخصه: إما أن ينقذ اليونان من الإفلاس «صندوق النقد الدولي» ودول الاتحاد الأوروبي الأفضل حالاً كألمانيا وبقية دول الاتحاد، وهو حل صعب التحقيق بسبب ضخامة المبلغ، أو تتخلى اليونان عن «اليورو» ولو موقتاً وتعود إلى استخدام عملتها الوطنية. أي ان أفضل ما تستطيع فعله هو التخلي عن «اليورو» فقط لا عن عضوية اتحاد أوروبا الاقتصادي، إن سمحت لها دول الاتحاد بالبقاء في عضويتها، حتى تتماثل للشفاء من أزمتها المالية كما يرى فيلدشتاين. وهذا رأي اقتصادي كبير مميز. والهدف الأساس من كتابة هذا المقال هو إيضاح معنى ما قاله البروفسور فيلدشتاين. يقول أستاذ الاقتصاد في هارفارد: حتى ينخفض عجز موازنة حكومة اليونان من 13 في المئة من دون أن تتصاعد نسبة العجز كنسبة من اجمالي الناتج الوطني لدولة اليونان (G D P)، «لا بد» لليونان من خفض إنفاق الحكومة ورفع نسبة الضرائب معاً بنحو 10 في المئة. ولكن خفض إنفاق الحكومة مع أو من دون رفع نسبة الضرائب، التي يزيد رفعها الأمر سوءاً، سيؤدي إلى تضاؤل قيمة الناتج الكلي لليونان، وسيرفع نسبة البطالة التي تجاوزت، قبل اتخاذ أي إجراء 10 في المئة. أما في اسبانيا فتجاوزت نسبة البطالة 20 في المئة في بداية هذا الشهر (ايار/مايو 2010). ولذلك فإن هذا الحل غير مقبول سياسياً داخل اليونان، ولن يُقدم على اتخاذه أي سياسي منتخب. إذاً فالحل في نظر فيلدشتاين هو تخلي اليونان عن «اليورو»، والعودة إلى «الدراخما» عملة اليونان الوطنية قبل انضمامها الى الاتحاد الأوروبي. فلماذا؟ إذا عادت الى اليونان «سيادتها النقدية»، فإنها تستطيع بسهولة متناهية زيادة المعروض من عملتها. وزيادة المعروض من أي عملة تؤدي إلى انخفاض قيمتها نسبة إلى بقية العملات التي لم يزد المعروض منها. وزيادة المعروض من «الدراخما» أيضاً تؤدي إلى زيادة النشاط الاقتصادي داخل حدود اليونان، لأن زيادة «كتلة» النقد المتداول ترفع الطلب الكلي، وذلك بدوره يؤدي إلى انخفاض نسبة البطالة. ولكن تأثير زيادة المعروض من العملة لا يقف عند هذا الحد. فزيادتها أيضاً تؤدي إلى ارتفاع أسعار كل ما يستورد، وتؤدي إلى خفض أسعار كل ما يصدّر للآخرين. وسبب ارتفاع أسعار السلع والخدمات المستوردة، أن زيادة المعروض من العملة الوطنية تؤدي إلى انخفاض قيمتها نسبة إلى العملات الأجنبية. وسبب تدني أسعار الصادرات أنها تكلف اقل بالنسبة الى من ارتفعت قيمة عملاتهم نسبة إلى العملة التي زاد المعروض منها وانخفضت قيمتها. وذلك بدوره يزيد الطلب في دول أخرى على ما كانت تستورده من اليونان. فلو قلنا مثلاً إن سعر ليتر زيت الزيتون اليوناني يكلف المستهلك الألماني أو الفرنسي مبلغ خمسة يورو، فإنه سيكلف بعد العودة إلى «الدراخما» وزيادة المتداول منها اقل من خمسة يورو بنسبة معينة. وانخفاض السعر مع تساوي كل شيء آخر يؤدي دائماً إلى زيادة الطلب. أي زيادة المطلوب من الصادرات اليونانية كزيت الزيتون والعكس صحيح، فالآلة المستوردة من ألمانيا، على سبيل المثال، التي كانت تكلف المستهلك اليوناني لو فرضنا ألف يورو، ستكلفه أكثر من الألف حين يتم تحويل نقوده الوطنية «الدراخما» إلى اليورو. وزيادة الصادرات ترفع الدخل الوطني الكلي، فترتفع نسبة النمو وتتضاءل نسبة البطالة. ولكن كل هذا ممكن إذا استطاعت اليونان التخلي عن اليورو، والعودة إلى استخدام «الدراخما» عملتها الوطنية سابقاً. والله من وراء القصد. (*) كلمة «خردة» تعني في هذا السياق شيئاً لا قيمة له وهي محاولة لنقل معنى كلمة «Junk» بالإنكليزية ولا أدري ما هو أصلها. * أكاديمي سعودي.