وصلت مصر في عصر المماليك إلى أعلى درجات تطورها، حيث أصبحت قوة عالمية لا إقليمية فقط، وللمرة الأولى في تاريخها الحديث، وبمقاييس القوة العسكرية والمكانة الدولية والقوة الاقتصادية والدولة المؤسسية والحراك الاجتماعي ورعاية المواطنين والتميز الفني والحضاري، وكل ذلك بالنسبة إلى معايير عصرهم، وصلت مصر في تلك الحقبة أعلى درجات تطورها منذ الفتح الإسلامي حتى يومنا هذا. فمصر المملوكية كانت قوة عسكرية عالمية تمكنت من دحر المغول أكبر امبراطورية توسعية عرفها التاريخ، وهزيمة التحالف الأوروبي الصليبي وطردهم نهائياً من الشرق الإسلامي، ولهذا حازت مكانة دولية رفيعة وتهافتت دول العالم المعروفة في هذا الوقت إلى خَطْبِ ودّها وكسب صداقتها، وهذا لا يمكن تحقيقه أو الوصول إليه إلا في ظل قاعدة اقتصادية قوية، سواء بالإنتاج الداخلي أو من طريق التجارة الدولية. ولتنفيذ هذه السياسات، أقيمت مؤسسات عسكرية وإدارية وقضائية شديدة التنظيم وتتميز بالاستمرارية. كما اتسم المجتمع المملوكي بالاستقرار والحراك الاجتماعي - في حدود مفاهيم عصرهم -، فلم تحتكر الثروة والجاه عائلات إقطاعية، كما هو الحال في الغرب الأوروبي، فالنظام المملوكي رفض التوريث، وكان مفتوحاً لكل من له قدرة، وتميز بغض النظر عن نسبه أو حسبه أو أصوله العرقية. أما رعاية المواطن والاهتمام به، فتمثلت أثناء الأزمات الاقتصادية وفترة انتشار الأوبئة، في الإجراءات التي تتخذها السلطات لحماية الضعفاء والفقراء، وكذلك الرعاية من خلال المنشآت الاجتماعية والدينية والتعليمية والصحية العديدة التي أنشأتها الصفوة للطبقات الشعبية، لذا لا ندهش إذا علمنا أنه لم تحدث ثورات شعبية في مصر المملوكية. وفي كتابه «مصر المملوكية قراءة جديدة» (دار العين- القاهرة)، يلفت د. هاني حمزة إلى أن تلك المرحلة قوبلت بتجاهل، وأحياناً بتشويه وسوء فهم، سواء عن قصد لغرض سياسي أو عن غير قصد. ولم تلق العناية والتقدير الكافيين، حيث درج الكثيرون على اعتبارها - خلافاً للواقع - عصرَ تخلف واستبداد وسيطرة أجنبية. وبتطبيق معايير العصر على ما كان سائداً منذ ثمانية قرون، وفي سرده تاريخ تلك الفترة، يتعرض ضمن أشياء أخرى لتصحيح هذه المفاهيم، باسطاً مفهوم المواطنة بمعناه القديم والحديث، ويتعرض أيضاً لقضايا لا يزال يعانى منها مجتمعنا الحديث، مثل قضايا توريث الحكم وتبادل السلطة والعلاقة بين الأقباط والمسلمين. والتحول التدريجي لمصر من أغلبية قبطية إلى أغلبية مسلمة، والذي اكتمل خلال هذه الحقبة. ويُعد هذا العمل قراءة نقدية جديدة لتاريخ مصر المملوكية منذ بدايتها الصاخبة في عام658 هجرية/ 1620م إلى نهايتها الدرامية في 923 هجرية/ 1517م على يد الأتراك العثمانيين، لتتحول مصر مرة أخرى إلى إقليم تابع بعد أن كانت دولة كبرى مستقلة. ويُشير المؤلف إلى أن النظرة التقليدية لدولة المماليك تميزت بإسباغ العنف السياسى المُفرط عليها، من حيث كمية الاغتيالات والإعدامات والتعذيب والسجن والنفي، حتى بمقاييس القرون الوسطى. ويؤيد تلك النظرة البداية الدموية لها، ففي الفترة الانتقالية من الدولة الأيوبية قُتل المُعظم توران شاه آخر سلاطين بني أيوب على أيدي فرقة المماليك البحرية في 648/1250، وفي الأعوام العشرة التالية لقيام الدولة، تولى العرش أربعة سلاطين (بخلاف شجرة الدر)، قتل منهم اثنان، المُعز أيبك 655/1257 بواسطة زوجته شجرة الدر، والتي اغتيلت بدورها انتقاماً في العام ذاته، ثم المظفر قطز 658/1260، ولم تستقر الأمور إلا بعد تولي الظاهر بيبرس، رابع سلاطين المماليك والمؤسس الحقيقي لمصر المملوكية. وتم تغيير عرش السلطنة خمساً وخمسين مرة (خمسة سلاطين تولوا العرش أكثر من مرة، ويدخل ضمن هؤلاء السلاطين خليفة عباسي واحد فقط)، بمتوسط تغيير حوالى كل خمس سنوات. وكانت تتبع هذا التغييرَ عادة فترةٌ من القلاقل والصراعات. وتُعد هذه نسبةً عالية، فحتى خلال الدولة الفاطمية كان متوسط فترة تغيير الخلافة حوالى كل 18 سنة. وهناك تسعة وأربعون سلطاناً مملوكياً (بمن فيهم شجرة الدر) تداولوا السلطة في خمسة وخمسين تغييراً، ويمكن تقسيمهم ثلاثة أنماط: الأول السلاطين الذين مسهم الرق، وكلهم يحملون أسماء غير عربية، وعددهم حتى نهاية القرن الثامن ه/ 14م، تسعة سلاطين، اغتيل منهم بصفة مؤكدة خمسة سلاطين، أي الأغلبية. وفي القرن التاسع ه/ 15م، تولى السلطنة أربعة عشر ممن مسهم الرق لم يُغتل منهم سوى سلطان واحد. والسلطانان الأخيران، قنصوه الغوري والأشرف طوماناباي، قُتلا في المعركة ضد العثمانيين ولم يكونا ضحية للعنف السياسي. النمط الثاني هم السلاطين الذين لم يمسهم الرق، ويحملون بالطبع أسماء عربية، ولكنهم باشروا السلطنة بأنفسهم، وعددهم حتى نهاية القرن الثامن/ 14م أربعة سلاطين، وهؤلاء اغتيلوا جميعاً، باستثناء الناصر محمد بن قلاوون، الذي توفي بصورة طبيعية في 741 ه/ 1341م، وواحد فقط في القرن التاسع ه/ 15م، هو فرج بن برقوق، واغتيل أيضاً في 815 ه/ 1412م. والنمط الثالث هم السلاطين الدُمية من أبناء الجيل الثانى والثالث، الذين لم يمسهم الرق. وكانت ولايتهم مقتة، وتفاوتت من عدة شهور إلى سنوات قليلة. وعددهم حتى نهاية القرن الثامن/ 14م كان ثلاثة عشر سلطاناً اغتيل منهم ستة، كلهم من أبناء الناصر محمد، الذين تولوا السلطنة عقب وفاته. أما في القرن التاسع/ 14م، فكان عددهم سبعة سلاطين دُمية اغتيل منهم واحد فقط. ويُعد بيبرس أول من تلقب بالملك القاهر، لكنه غيره إلى الملك الظاهر بناءً على نصيحة وزيره ابن حنا، الذي أخبره أن من حمل هذا اللقب من الملوك لم يكن موفقاً، فتشاءم منه وكان متطيراً بطبعه. وطبقاً لنظام الألقاب المملوكي، يتكون اسم السلطان من اللقب السلطاني عند اعتلائه العرش، وهو الملك الظاهر ركن الدين (بصفة الدين، مثل حسام الدين وسيف الدين، التي تُضاف إلى الاسم العلم عند تأمره في الغالب) أبو الفتوح (كُنية السلطان، مثل أبو المعالي وأبو السعادات، ولا تعني هنا الأبوة الحقيقية، ولكنها صفة من صفات المجد) بيبرس (وهو الاسم العلم، ويكون تركياً غالباً بين المماليك ممن مسهم الرق من الجيل الأول، وله في الغالب معنى، وبيبرس يعني الفهد) ابن عبدالله البندقداري الصالحي النجمي الأيوبي (النسب في نظام الألقاب المملوكي للجيل الأول لا يعود إلى الأب الطبيعي، ولكن يُسمى «ابن عبدالله» لتجهيل النسب ونفي أي علاقة بالمملوك وأصولِه غير المُسلمة، ثم يُنسب بعد هذا إلى أستاذه أو تاجره، أو مهنته، أو وظيفته، أو علامة جسمية مميزة له، أو أصله العرقي أو غيره). والبندقداري هنا تعود إلى أيدكين البندقدار، وهو أول من اشتراه صغيراً في أسواق الشام ثم أهداه إلى الصالح نجم الدين أيوب، ولهذا يُنسب بيبرس إليهما معاً. وهنا نجد الإشارة إلى اسم السلطان، ولقبه، وكنيته، ونسبه بالتفصيل، إذ إنها تتكرر لجميع السلاطين، وأيضاً الأمراء لكن من دون تسمية الملك أو اللقب السلطاني سوى بين أمراء العائلة الأيوبية. وفي تناوله لانتشار نظام الوقف في العصر المملوكي، يُرجع المؤلف ذلك إلى أسباب عدة ذات سمات سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية، منها: أنها كانت وسيلة لحماية الأموال وتأمينها في عصر يتميز بالتقلبات السياسية المتلاحقة وما يتبع هذا من مُصادرة، وكذلك لإعفاء هذه الثروات من الضرائب والمكوس، حيث إن الأملاك الموقوفة كانت معفاة منها، كما كانت إحدى وسائل نقل الثروة إلى ورثة الواقف وذريته، في نظام يعتمد أساساً على الجيل الأول ولا يعترف بحق المولد لنسله. ولا شك أيضاً في أنه كانت هناك رغبة في التودد إلى الشعب من طريق المنشآت ذات الطابع الخيري، مع حب الظهور والمنافسة والتفاخر. وأخيراً، كانت قوة الشعور الديني لدى طبقة الصفوة المملوكية، حافزاً قوياً لهم لوقف أجزاء كبيرة من ثرواتهم أو معظمها للمنشآت الدينية وغيرها من أعمال البر والخير والمنفعة العامة. وعن المواجهة الأولى في مصر المملوكية مع المغول، يشير المؤلف إلى أن معركة عين جالوت المصيرية جاء النصر فيها مفاجأة للجميع، بمن فيهم المصريون أنفسهم، فهي تُعد الانكسار الأول للمغول الذي لم يكن الأخير. وعلى رغم أن الكثير من المراجع العربية المعاصرة لا يذكر الدور الذي لعبه الصليبيون في تلك المعركة، وإن لم يشاركوا فيها بأنفسهم، فمعظم المدن الساحلية الشامية وتوابعها كانت في يد الصليبيين الفرنجة، وكان هؤلاء على اتصال بالمغول، إلا أن فرنجة الشام استقر رأيهم بعد مناقشات على الحياد، لكنهم سمحوا للجيوش المصرية بالمرور في أراضيهم، وزودوهم بالمؤن، مقابل قيام المماليك المصريين ببيعهم الخيول التي سيستولون عليها -في حال النصر- من المغول بأسعار بخسة، ما جعل المصريين يضمنون حياد الفرنجة وعدم طعنهم في الظهر، ليتفرغوا لمواجهة المغول.