تتطلب حاجة الإنسان حيزاً مكانياً يأوي إليه ويسكن ويجتمع ويقضي حوائجه فيه، هذا المكان الذي يُعتبر ضرورة جسدية وحاجة نفسية لا ينفك البشر عن طلبها ووضع اليد عليها؛ بل والتفاخر والتباهي بها على الآخرين، أصبح اليوم همّ الإنسان وشغله الشاغل والباعث لجهده وتغرّبه وتعرضه للمشاق، ولعل هذا المقصد المادي رسمته الشريعة الإسلامية، عندما جعلت تحصيل المساكن وتدبيرها ضمن مقصد حفظ الأنفس من حيث الوجود، فالمكان الذي يستأنس به الإنسان يصبح قطعة من روحه وجزءاً من مكوناته التي لا يستغني عنها آحاد البشر، وقد يضحي بنفسه لأجلها، وما أصبحت تلك البقع المكانية المسماة (الأوطان) بهذه المنزلة من التعظيم والإجلال إلا لأنها خالجت رغبات النفس وما تهواه القلوب من تلك الأرض الواسعة، ولعلي أرسم مقاربة فقهية وفكرية بين الحيز المكاني وعلاقته بالمتغيرات المعاصرة التي اهتمت به، ومدى تحقق الأنسنة ومتطلباتها الطبيعية من حيث تداخلات المكان مع السياسة والاقتصاد وعلوم الإنسان المتنوعة، وسأعرض أهمها في النقاط التالية: أولاً: شدني ما كتبته الدكتورة هبة رؤوف عزت عن «أسئلة المدن ومستقبل الأمة» في كتابها «نحو عمران جديد» (طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2015، ص 71-96). فقد حاولت أن ترسم خريطة من العلاقة بين احترام الجسد وحقه في حيز يحمي إنسانيته من تغول المادية العمرانية، حتى لا تحيله قالباً من الإسمنت المصمت بلا روح، يعيش في غابة باردة من الحركة الصامتة الصاخبة والصنائع المتجددة، وسبق أن كتبت حول هذا المعنى بعنوان «قيم الزحام... وقيوده» في عام 2009 (انظر: alwaai.net)، وكان التركيز على القيم التي يفرزها زحام الأمكنة على البشر، ليس في مجال المغالبات على الموارد والخدمات والتقاتل في الأماكن العامة فحسب، وإنما على أنماط الشخصية ومجالات التفكير الإنساني. وعند التتبع لفقه الأمكنة ومجالاتها التنظيمية في حياة البشر، أظن أن ما كتبه الفقهاء المسلمون من كتب وفصول وأبواب في تقنين الحيز المكاني وتهذيب التعاطي الإنساني معه ليعد من أبرز مظاهر التحضر الإسلامي لجهة التنوع في الموضوعات والتفصيل في أحكامها، وفي هذا الشأن تناولوا بالبحث والأدلة تخطيط المدن المبني على السعة، وتراتيب الحاجات للموارد والطبيعة، وكتبوا في أحكام المرور وحقوق الارتفاق التي تتطلب حاجات المكان والعقار للطريق والهواء والماء، كما اسهموا في نشر ثقافة آداب الطريق والمرور وحسن التعامل في أماكن التجمعات كالأسواق والأحياء والحمامات والجوامع وفي المواسم الدينية كالحج، ما يؤكد سبقاً حضارياً في مجال التنظير والتطبيق يشهد بتقدمية الفقه الإسلامي في هذا المجال العمراني الهام، ومن المؤلفات الفقهية ذات السابقة العلمية التي ساهمت في هذا البناء الحضاري، كتاب «القضاء في البنيان»، للفقيه المالكي عبد الله بن عبد الحكم (ت 271ه)، وهو من أقدم الكتب المؤلفة في أحكام البنيان، وكتاب «القضاء بالمرفق في المباني ونفي الضرر» للإمام عيسى بن موسى التطيلي (ت 386ه). وكتاب «الإعلان بأحكام البنيان» لمحمد بن إبراهيم المشهور بابن الرامي التونسي (ت 784ه). كما أن للأحناف جهداً فقهياً في هذا المجال قام به الفقيه الحنفي الشيخ المرجي الثقفي، وترجمته غير معلومة، ولكن شرحه قاضي القضاة الدامغاني (ت 478ه). إلى غيرها من المؤلفات المستقلة أو المسائل المنثورة في كتب الفقه والنوازل والأحكام السلطانية. وهذا الوعي الفقهي لفقه المكان ورفاه العمران ساهم فيه الصحابة في شكل عملي وشواهدهم في ذلك كثيرة، يحدثنا الإمام الماوردي عن تخطيط البصرة فيقول: «وقد مصرت الصحابة البصرة على عهد عمر، وجعلوها خططاً لقبائل أهلها، فجعلوا عرض شارعها الأعظم وهو مربدها ستين ذراعاً، وجعلوا عرض ما سواه من الشوارع عشرين ذراعاً، وجعلوا عرض كل زقاق سبع أذرع، وجعلوا وسط كل خطة رحبة فسيحة لمربط خيلهم وقبور موتاهم، وتلاصقوا في المنازل، ولم يفعلوا ذلك إلا عن رأي اتفقوا عليه، أو نص لا يجوز خلافه» (انظر: الأحكام السلطانية للماوردي، طبعة دار الكتب العلمية، ص 226)، ولا يزال فقه المكان من حيث التنظير والتنزيل ساحة رحبة للباحثين لزيادة التعمق والتخريج على أحكام من سبق من الفقهاء؛ بما يناسب احتياجاتنا المعاصرة، وهذا الباب الحضاري لم يطرقه للأسف إلا قلة من الباحثين. ثانياً: المكان وحيز الأرض اليوم يتجه نحو التشكّل وفق طبيعة المدن الحداثية، وأقبل الناس خلال القرن الماضي نحو سكنى المدن رغبةً في الحصول على الخدمات والمرافق من دون مشقة التنقل والابتعاد عن المنزل كما في القرى والهجر، وأصبحت المدينة التي تستوعب المليون يتزاحم فيها الخمسة والعشرة ملايين أحياناً، وانقلبت السعة والقرب إلى مشقة في التنقل وصعوبة في الظفر بالمرافق، وتراكمت الأبنية فوق بعضها بعضاً، وتحاشر الناس من أصقاع البلاد للاجتماع بلا روابط مقنعة وداعمة لهذا التواجد السكاني الاضطراري للجميع، وبردت العلاقات الاجتماعية في ما بينهم إلا أن تكون هناك روابط مسبَّبة تجمع بين عدد من الجيران في مقابل الأكثر القابعين في عزلة حقيقية على رغم زحام البشر حولهم، المتحكّم للأسف في هذه الحالة الراهنة للمدن هم تجار العقار ومهندسو العمارة المدنية المعاصرة وفق فلسفتها الحداثية القائمة على البعد الرأسمالي المحض الذي تتكون لأجله المدن وتتحكم في مستوى المكان وسعته وتأطير اجتماع الناس فيه، وفق القيمة المادية الاستهلاكية التي يحققها المكان لأصحاب التجارة والنفوذ، كما أن هناك منطلقاً آخر لفلسفة المدن الحداثية يسيطر عليه العقل السياسي المتغوّل في تفكيره هاجس الأمن والسيطرة على أفراد المجتمع، ومنع أي تكتل يحقق قوة مهددة للنظام السياسي، لذلك غدت البنى التحتية للمدن الحداثية لا تمت لمعايير القيم والثقافة بصلة كبيرة، وهذا ما جعل مخرجات تلك البُنى المعمارية بعيدة أيضاً عن معاني القيم وثقافة المجتمع، تظهر ملامح هذا البُعد في سلوك سكان تلك المدن وتصرفاتهم مع البيئة والطبيعة والإنسان، وتتغير في شكل سلبي كلما تعاقبت الأجيال على ذلك الركام الإسمنتي من بيوت وشقق متناسين جذورهم الراسخة التي نمت وترعرعت في أحضان أمكنة ما قبل الحداثة، أمكنة التعاون والتضامن والجسد الواحد، وفي مقدمة ابن خلدون إشارات رائعة لدور المدن وتخطيطها وإنشائها، وما يترتب على ذلك من بقاء المجتمعات أو اندثارها، وفلسفته في ذلك بالإضافة إلى أنماط البناء والسكن من مباحث الإبداع الخلدوني الملهم. (انظر: مقدمة ابن خلدون 1/192،229) ثالثاً: يعيش نصف سكان العالم في مدن حضرية، ويتوقع أن يزيد عددهم إلى أكثر من ستة بلايين في 2045، بحسب تقرير للأمم المتحدة رفعه (جون ويلموث) مدير شعبة السكان بإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، وذكر في تقريره: «إن إدارة المناطق الحضرية واحدة من أهم تحديات التنمية في القرن الحادي والعشرين» (انظر: صحيفة الحياة في 11 تموز - يوليو 2014) وأمام هذا التحدي السكاني الذي يدفع الملايين من البشر للتراكم في مدن تتباطأ فيها التنمية وتتعثر فيها الإصلاحات المدنية، ماذا نتوقع أن يحدث لهم في المستقبل القريب؟ وما هي نتائج هذا التجمع الفارط في الكثرة على النفوس والأفكار والمجتمعات؟!. وأظن أن حلول مثل هذه الظاهرة مكلف وباهظ الثمن، ولكن محاولة تغير قناعات المتحولين نحو المدن المكتظة قد يكون الأيسر في قدرة المثقفين والإعلاميين وأصحاب المنابر المجتمعية، كما أن إعادة النظر في معايير السكن المطلوب قد تسهم في توسيع شريحة الاعتدال الوسطي وتقلل من البذخ المغالي وتحسّن من سكن الفقراء خصوصاً في ضواحي الصفيح والأحياء القديمة داخل المدن، ومن المعايير التي قد تفتح آفاق النظر في بحثها ومدى جدواها، أن يشتمل السكن على أربعة أوصاف، أن يكون: ماتعاًَ، وقانعاً، وجامعاً، ومانعاً. والمقصود بها عند التفصيل، أن السكن لا بد من أن يكون ماتعاً لأنه مكان الراحة والاستقرار والسكون وهذا شرط إنساني لا بد من توافره كحقٍ محفوظ لكل محتاج للسكن، أما كونه قانعاً، فيعني توافر الوسط المطلوب في البناء والأثاث بما يقنع المحتاج ويعزز قناعة النفس للمستكثر المفاخر في تعظيم البناء وتفخيمه، أما وصف الجامع في السكن، أي جامع الصفات الضرورية للاحتياج النفسي والأخلاقي والاجتماعي، فهذا يرجع للمكان ونقاء البيئة وصحة الحي السكني وسلامته من القذارة والفساد، أما الوصف الأخير وهو المانع، فالمقصود به أن يكون مانعاً من الآثار المترتبة على فقد الصفات الجامعة للسكن المثالي. هذه الصفات الأربع للسكن هي مطلب طبيعي يحافظ على إنسانية ملايين البشر من التغول في التكاثر والتفاخر، أو الوقوع في وهن العيش ووهد البؤس، وعند انعدام الخيارات الفاضلة للسكن الإنساني السويّ، يلجأ المحتاج إلى بيئات أشبه بالمستنقعات البشرية الحافلة بالأمراض القاتلة والأوبئة الفتّاكة والمثيرة للقلق والمسببة لانعدام الاستقرار في المجتمع كله. وكما أن تحديات الإنسان المعاصر كثيرة ومتنوعة ومتجددة، إلا أن مشكلة الحيّز المكاني وسكنى الإنسان المعاصر وما يحتف به من ظواهر مخيفة، باتت من القضايا المسكوت عنها، إما غفلةً من أصحاب القرار في تخطيط المدن، أو تقاعساً عن التصحيح بسبب تراكم المشكلات وصعوبة الحلول الجذرية والاكتفاء الموقّت بعقاقير التخدير ولو تعالت أصوات النذير والتحذير.