وفاة «رئيس الشعب» و «رجل الصاروخ الهندي» أبو بكر زين العابدين عبد الكلام الإثنين الماضي عن عمر يناهز 83 سنة أثناء إلقائه محاضرة في المعهد الهندي للإدارة بمدينة شيلونغ في شمال شرق الهند، أثارت موجة من الحزن العميق في الهند كافة. ذكرت الصحف أن أطفال المدارس الذين يترقبون عادة عطلة على وفاة زعيم دمعت عيونهم هذه المرة على موت الرجل الذي كرّس حياته لخدمة الوطن، واستطاع أن يلهم قطاعات واسعة من الهنود بسيرته التي تبدو جزءاً من قصة فيلم بوليوودي، فقد بدأ حياته بائعاً متجولاً للصحف في قرية راميشورام في ولاية تاميلنادو في أقصى جنوبالهند، وصولاً إلى أعلى منصب في الهند وهو رئاسة أكبر ديموقراطية في العالم. وفي رحلة حياته الطويلة التي بدأت عام 1931 ترك معالم نيِّرة كثيرة في الطريق، فقد انخرط في المنظمة الهندية لأبحاث الفضاء (ISRO) وعكف على تطوير القمر الاصطناعي فنجح في تطوير أول قمر اصطناعي هندي «روهيني» ووضعه على مدار الأرض، كما نجح في تطوير أول مركبة إطلاق للأقمار الاصطناعية (SLV-III) بوصفه مديراً لهذين المشروعين، وبذلك استطاع وضع الهند في مصاف الدول المتقدمة كالولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وغيرها التي تملك هذه المقدرة، ثم عمل على جعل الهند قوة نووية بصفته المستشار العلمي لرئيس وزراء الهند ثم لحكومة الهند (1991-2001) بإطلاق تجارب بوكران النووية عام 1998، وقد سبق أن أدار إحدى أكثر المؤسسات الهندية في أبحاث وتطوير الدفاع قوة وسمعة، وهي المنظمة الهندية لأبحاث وتطوير الدفاع (دي أر دي أو DRDO) وعمل في تلك الفترة على تطوير البرنامج الصاروخي، فأتحف الهند بأهم وأقوى نظامين صاروخيّين وهما «أكني» و «برتهوي»، وقد بلغت شعبيته أوجّها في أوساط الشعب، وقررت حكومة التحالف الوطني الديموقراطي بقيادة رئيس الوزراء أتال بيهاري فاجباي وقتذاك في عام 2002 أن ترشح عبد الكلام لمنصب رئيس جمهورية الهند، نظراً لشعبيته الواسعة وتم انتخابه الرئيس الحادي عشر لجمهورية الهند بإجماع الأحزاب. وفي الفترة التي قضاها في قصر الرئاسة من عام 2002 إلى 2007 نوّر الهند بقيادته الفكرية الحكيمة والمتميزة وبسذاجته وبعده عن مظاهر الأبهة الرئاسية واحتكاكه مع السواد العام وإثباته أنه معلم في المقام الأول قبل أن يكون رئيساً للدولة. ورداً على سؤال كيف يريد أن يُعرف في الدنيا بعد وفاته، قال إنه يريد أن يُعرف كمعلم، وقد قرّبَتْهُ تعاملاته في قصر الرئاسة إلى الناس فلُقِّب ب «رئيس الشعب» وسبق له أن لقب ب «أبو الصاروخ الهندي». كيف استطاع هذا العالِم الصاروخي أن ينال هذا القدر من الشعبية لدى طبقات و شرائح الشعب الهندي، علماً أن العلماء قلما يُعرفون خارج نطاق عالمهم الضيق، وكيف استطاع أن يرسم نفسه في مخيلة الشعب الهندي؟ إذا صدّقنا الإعلام الهندي الذي يقول إن عبد الكلام فاق جميع رؤساء الهند في الشعبية فعلينا أن نبحث عن سبب ذلك، والذي يكمن في قدرة إيه بي جيه عبد الكلام على إلهام الجيل الجديد من الهنود الذين سيلعبون دورهم في تحول الهند إلى قوة عظمى بحلول عام 2020 في تصوره لمستقبل الهند في القريب العاجل. وقد أكّد بقوة أن الجيل الجديد من الهنود يملك مؤهلات من شأنها أن تجعل الهند قوة عظمى في العلوم والتكنولوجيا والتقدم الاقتصادي. كانت حياته عبارة عن التضحية والفناء في العلم، فلم يتزوج إلا من العلم والعمل والجهد، وحافظ في حياته المهنية طيلة خمسين سنة أو أكثرعلى روتين شاق من العمل لمدة ست عشرة ساعة في اليوم في معمله ومكتبه، ولم يحلم إلا بأن يساعد بلده الهند في الحصول على الإكتفاء الذاتي في مجال العلم والتكنولوجيا. وبذلك صار قدوة للجيل الجديد الذي عقد عليه آمالاً كبيرة، فألّف كتباً عدة: «أجنحة من النار» و»العقول المُلهَمة» و «هدف 3 بلايين» و «الهند بحلول عام 2020»، و «نقاط التحول»، وتفاعل مع الأطفال والشباب وحاضر في المعاهد والمؤسسات بعد تقاعده من كرسي الرئاسة، وقد حظي بشعبية واسعة لدى الطلاب الذين رأوا فيه مفكراً كبيراً وعالماً عظيماً وقائداً محبوباً، مع كونه إنساناً بسيطاً عشق الهند وأهلها وسخّر كل ما بوسعه للنهوض بالهند ورفع مستواها العلمي والفكري لتلعب دوراً أكبر في العالم. كان عبد الكلام رئيس الهند الثاني من المسلمين بعد فخر الدين علي آزاد، وكان واحداً من ثلاثة تولّوا الرئاسة بعد رادها كريشنان وكيه آر ناراينان اللذين لم يكن لهما أي انتماء سياسي، ويعتبر هؤلاء الثلاثة من أفضل رؤساء الهند على الإطلاق، وفي بلد تعوّد فيه الشعب سماع أنباء الفضائح السياسية والفساد من حين لآخر فإن القادة مثل عبد الكلام يتحولون إلى أسطورة بمجرد إخلاصهم وتفانيهم في خدمة الوطن وحماستهم لتغيير المجتمع نحو الأفضل. لم تُبهر عبدَ الكلام الجوائز الكثيرة التي نالها في حياته الطويلة منها درجة الدكتوراة الفخرية من ثلاثين مؤسسة وجامعة عالمية، وأعلى الأوسمة المدنية التي منحتها له حكومة الهند مثل «بادام بوشان» و «بادام ويبهوشان» و «بهارات رتنا»، كما لم يبهره منصب رئيس جمهورية الهند أيضاً لأنه كان في المقام الأول «كرم يوغي» أي رجل العمل، و «إنسان الأرض»، فلم ينسَ أبداً جذوره المتواضعة كما لم ينسَ دور أساتذته وزملائه في تكوين شخصيته. ومع علو مكانته كان شديد التواضع، ليِّن العريكة مع زملائه وعطوفاً على مرؤوسيه حتى خدمه. كل من لقيه أحبه، وكل من سمعه أو قرأه تأثّر به، وبذلك صار نموذجاً في الحياة العامة وملهماً للشعب الذي يمثّل رُبع البشرية، ولن تجد في الهند اليوم عيناً لا تبكي على رحيل هذا الإنسان، كأن كل هندي خسر أحد أعز أقربائه، وتلك هي المحبة التي لا يمنحها الله إلا للقليل من عباده المخلصين. وخسر المسلمون الهنود واحداً من عظمائهم الذين يفتخرون بإسهامهم في بناء الوطن، ولعله لم يظهر قائد مسلم حظي بهذه الشعبية الواسعة بعد مولانا أبو الكلام آزاد القائد الأسطوري لحركة تحرير الهند وأول وزير للتعليم بعد الاستقلال. وفي الوقت الذي يواجه المسلمون تحديات كثيرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي فإن هذه خسارة عظيمة لهم، ولكن يكفيهم فخراً أن الفقيد لم يكن قائداً للمسلمين فحسب بل كان قائداً للهنود على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم ولغاتهم وثقافاتهم وعلى اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وأجناسهم، إنهم لا يبكون قائداً مسلماً بل يبكون قائداً هندياً مثالياً أغنى الهند بإسهاماته الفريدة والجليلة. لم يخلف عبد الكلام إبناً ولا بنتاً لأنه فضّل أن لا يتزوج ليكرّس نفسه للعمل، ولكن خلّف وراءه تراثاً سيُلهم الأجيال التالية من الهنود على حب الوطن والإخلاص في سبيله والارتقاء بالبشرية عن طريق التقدم العلمي والتكنولوجي، كما خلّف عدداً من الكتب القيمة التي تباع نسخها بالملايين ويقرأها الشباب والأطفال والشيوخ بكل لهفة، وترك وراءه كثيراً من الأقوال السائرة التي كانت مصداقاً لحياته التي عاشها: «يحتاج المرء إلى القوة ليبلغ غايته سواء كانت هذه الغاية قمة إيفرست، أو قمة مهنتك»، «لا يملك جميعنا موهبة متساوية، ولكن جميعنا يملك فرصة متساوية لتنمية موهبته»، «من السهل جداً أن تهزم أحداً ولكن من العسير أن تظفر بحبه وثقته»، «إذا أردت أن تشرق كالشمس فعليك أولاً أن تحترق كالشمس»، «يحتاج المرء الصعوبات والمشقّات في حياته ليستمتع بنجاحه»، «كل الطيور تأخذ ملاذها أثناء المطر، ولكن الصقر يتجنب المطر بالطيران فوق السحب». * رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية في جامعة جواهر لال نهرو - نيو دلهي