عرس المطر في أحضان الطبيعة الخلابة تنام القرية الحالمة مفترشة البساط الأخضر وملتحفة بالضباب تعيش السعادة بأمل أبنائها وتمارس طقوس الحياة بتفائلهم وصدق تعاونهم وكفاحهم من أجل البقاء الذي يقوم على مهنة الزراعة والرعي وفي ظهيرة ذلك اليوم المشمس من صيف عامنا السادس من مطلع قرننا الهجري الذي نودع اليوم نهاية عامه التاسع والعشرين .. عاد أهل القرية إلى منازلهم المتواضعة لأخذ قسط من الراحة ولتناول وجبة الغداء وأمام تلك السفرة التي حوت كل ما لذ وطاب في نظرهم حينئذ وهي لا تتعدى كسرة خبز قاسية وقليلا من اللبن أو القهوة . وهذا دليل على ان ( القناعة كنزا لا يفنى ) فجأة صوت هز القرية تبعه زوابع رعدية .. الشمس بدأت تختفي بين ركام السحاب الذي كسى الجو لطفا وجمالاً .. الرياح بدأت مناوراتها وهي تحرك سكون القرية .. السماء بدت سوداء مظلمة .. تعالت الاصوات .. هيا أسرعوا غطوا الأعلاف .. افتحوا السواقي ... بدأت المطر تصافح الأرض قطيع الاغنام ذو اللياقة البدنية العالية أخذ طريقه مسرعا إلى ( زريبته ) ثم اخذت هذه المصافحة تشتد قليلا .. قليلا .. ثم توقف قبل الغروب بساعتين .. بعدها خرج الناس فرحين مستبشرين شاكرين ربهم مهللين ومكبرين على هذه النعمة العظيمة ... الشعاب لا زالت تسيل والأودية بما حملته لها تلك الشعاب تجري .. اللهم لك الحمد.. ما لنا يومين من يوم صلينا صلاة الاستسقاء .. ما شاء الله الجو رائع قالها الجد وهو يستمتع برحمة الله الجو كان اكثر روعة الأرض بعد المطر منظرها خلاب والهواء نسيمه هباب تنظر امامك .. حولك .. يا للدهشة كل شيء بعد المطر جميل .. تهتز مشاعرك .. تتحرك عواطفك ... تستيقض وجدانك ... إن لم تكن شاعرا فستحاول ان تجرب وإن كنت كذلك فحتمنا ستبدع وانت ترسم تلك الطبيعة وتنقلها بالحرف والكلمة وتترجمها كما هي واقعا حياً يطرب لها المستمع ويشتاق لمراه البعيد .. حقا ما أجمل رائحة المطر حين تمتزج برائحة العشب والتراب .. لكنها لحظات بسيطة والسماء من جديد ملبدة بالغيوم .. وإذا بالمطر يعود بغزارة .. وحين وقت الغروب و المطر لا زال يواصل هطوله ... الجد مع الابن والاحفاد يؤدون صلاة المغرب .. والام في زاوية البيت توقد النار وتجهز كل شيء استعدادا لطهي العشاء .. المطر توقف ... الجميع خرجوا فرحين مستبشرين .. حامدين ربهم وله شاكرين السماء كانت شبه صافية والنجوم قد بدأت اكثر وضوحا وهي تتلالا في كبد السماء . الجو كان هادئا إلا من اصوات السيول بالاودية و الشعاب في المنحدرات او بعض الجيران الذين تبادلوا النداءات للاطمئنان على سلامة بعضهم بعد ذلك الليل الماطر .. وبعد العشاء سمرة الاسرة على ضوء القمر ثم كلا اخذ مكانه وبدأوا يسبحون في بحر الاحلام لكن الجد كان اكثر ازعاجا بشخيره الذي يتأذى منه أهل البيت ولم يسلم منه أهل القرية وهو يعكر عليهم مزاج النوم ... وفي الهجيع الاخير من الليل تعالت الاصوات .. مطر .. مطر .. تسابق الجميع كلا حاملا فراشه المتواضع إلى داخل البيت الاسطواني ذو الجدران الحجرية والسقف الخشبي المتهالك .. وابل المطر كان يهطل بغزارة والرياح تجري بشدة .. الام تشعل السراج الذي اضاء البيت وعطر برائحته ( القاز ) واضاف لمشاعرهم الدفء والأمان .. ( الجد ) يطل من شرفة الباب وهو يهلل ويكبر .. يا رب سلم سلم ..حبات المطر تجتمع فوق السطح وتكون غديراً ... واخذت قطراته واحدة بعد الاخرى تحل ضيوفا غير مرغوبا فيهم على اهل البيت ... وبدأت تهاجم الفرش التي أكل عليها الزمن وشرب .. لكن خبرة الحياة وتجاربها جعلتهم اكثر نضجاً لذا وضع وعاء صغير يستقبل هؤلاء الضيوف الذين لا يلبثون إلا قليلا ويخرجوا مطرودين حين يمتلأ ليعود في الاستقبال والطرد من جديد .. قطيع الغنم يستنجد بأصحابه لكن لا حياة لمن تنادي كلا من بالقرية كان أكبر همه ان تمتلأ برك الماء وترتوي الأرض والمزارع وأن تكون السيول أكثر لطفا وحنانا بالمدرجات . وألا تلحق بها أضرارا كبيرة .. ومع شروق الشمس اخذ عرس المطر يخف قليلا . قليلا حتى انتهى .. خرج الناس من بيوتهم والارض قد استقت بالمطر .. كان كل شيء مما تعيشه اليوم على بداياته ومنها البيت المبني من الخشب والزنك ( الصندقة ) الذي لا يملكه في ذلك العهد غير تاجر القرية الوحيد وميسور الحال بين أهلها الذين يعيشون قمة الحضارة وهو يودع بيته الحجري ويمنحه ( لماشيته ) لكن الاصوات تعالت وتبادل أهل القرية النداءات وهرعوا مسرعين لنجدة ( ابو رأفت ) وعائلته الذين اصبحو هم وبيتهم المصندق مفقودين بعد ان استسلم ذلك البيت للريح الشديدة التي اقتلعته من اصله وشتت جدرانه فلم تجد الاسرة حلا إلا ان تقضي بقية ليلتها مع الغنم وتحت ضيافته .. توجه ابناء القرية لمدرستهم الابتدائية المتواضعة التي لا يتجاوز عدد طلابها أصابع اليد ... ثلاث مدرسين من بلاد الشام وكانت العائلة المقتدرة هي من تملك ( حمار ) فللطالب الذي يذهب للمدرسة ممتطيا صهوة ( حمار ) يعتبر ابن النعمة والرفاهية . مربط ( الحمير ) كان بالقرب من باب المدرسة لذلك تختلط احيانا صوت نهيقها باصوات الطلاب وهم يقرأون وتعكر على المدرس جو الدرس وهذا ما حدث في احد الحصص حين ضاق المدرس الشامي ذرعاً من تلك الاصوات النكرة وهو يقول مخاطباً طلاب الفصل اللي عنده حمار برى يرفع ايده ... ارتفعت الايادي متفاخرة ثم قال ( جتكم نيلة ) احد الطلاب المساكين الذي لا يملك حماراً يحسب هذه الكلمة ثناء على زملائه اصابته الغيرة وهو يقول و( انا ) يا استاذ قال المعلم وانت الله يخرب بيتك .. تضاحك الطلاب .. اصلا يا استاذ ما عندهم بيت بس عندهم ( عشة ) أولك اخرس انت واياه .. اما فراش المدرسة العم ابو ( صالح ) الذي كان كثير المزح والضحك مع الجميع لم يعد اليوم يمازح ويضاحك الا الكبار منهم في مستواه المعيشي والمالي خاصة وانه اصبح من أكبر تجار المنطقة لكن براد المدرسة ذو اللون الاصفر الذي تحول مع الزمن إلى اسود كان العار الذي يلاحقه .. خاصة وأن هؤلاء الطلاب قد تعلموا واصبحوا من الشخصيات القيادية بالمنطقة وحين يتعالا عليهم ابو صالح يذكرونه ببراد المدرسة وكيف كان .. المهم انه وبعد ذلك الخير الذي عاشته القرية أقام اهل ( النيد ) حفلا كبيرا لان ابنهم الجندي قد عاد من الشام وهنا ليس المقصود به بلاد الشام بل كان حينها من يخرج من حدود القرية مسافرا لاحد مناطق المملكة يقال عنه شايم أي سافر إلى الشام الكل يتأمل في لبسه الجميل ومظهره اللائق كل شيء فيه يدعوا للاعجاب خاصة بنات القرية اللاتي يتجسسن عليه بنظراتهن المعجبة وكلن منهن تحاول من بعيد ان تنال اعجابه وتخطف قلبه وتدخله قفصها الذهبي كل شيء فيه تغير حتى طريقة كلامه واسلوب حواره كان فيه نبرة من اللهجة الشامية .. ومنها على سبيل المثال لا الحصر كان يحكي للضيوف عن رحلات القنص مع زملائه في العمل وهو يقول لهم طلعنا للبر كاشتين وغرز علينا ( الموتر ) قاطعه احد الضيوف سائلا وش هو ( الكاتشين ) هو واحد من خوياك هو و( الموتر ) رد عليها ابك لا . كاشتين يعني متمشين والموتر ابك هو السيارة تبادل كل من بالمجلس النظرات ومن اخر المجلس قال احد الشباب او تعرف تمشي بها .. بكل فخر نعم تراها بسيطة وانا اخوك قال احدهم ما شاء الله عليك الله يحفظك لوالديك كانت موضة الموظفين في ذلك الحين هي علبة السجائر والكبريت اذ كان ابناء القرية يلاحقونه على امل ان يرمي سجارته بيده بعد ان يمتص سمها . وهذا ما حدث يومها ... وبعد ان تناول الضيوف الغداء اسرع بعض الشباب إلى الجبل المقابل ووضعوا بعض العلامات ومنها الحجر الابيض ( المرو ) استعدادا لرماية التحدي ( التنصع ) وهي ما يبعث في نفوسهم الفرح والبهجة والسرور.. كل شيء في تلك القرية تغير للاحسن وانطلق الجميع في بناء المقومات الحضارية والاستثمارية ولم يبقى من ذكريات القرية غير المدرسة الابتدائية التي تحولت إلى مأوى للعمالة المتخلفة والمقيمة اما ابن اهل النيد فقد تزوج وكبر ابنائه وهو اليوم من سكان احد مناطق الشام بالمملكة الذي استقر بها بعد ان احيل للتقاعد .. وقريبا سنواصل هذه السلسلة من اخبار قرية الجبل . كاتبه : جابر حسين السلمي المالكي