نحن في بلاد العرب لم نودع عام 2011 م لأنه لم ينته بعد، فهو سيكون عاما طويلاً يتداخل في أعوام كثيرة ستأتي بعده، ففيه زرع ملايين العرب المعاصرون بذور حريتهم ونهوضهم ومستقبلهم القريب والبعيد. في العام 2011 م أدهش العرب المعاصرون أنفسهم، وهم يتلقفون تلك الشعلة التي أينعت في تونس وباتت منارة تهدي شعوب العرب، تبعث فيهم الثقة والأمل والإيمان بقدراتهم على اقتلاع نظم الاستبداد في كل ديارهم غير العامرة. لشدة لهفة وحرمان العرب استعجلوا قدوم الحرية، وانقشاع ظلمات استبداد الأنظمة، وسرعة تهاويها، ولكن المستبدين استيقظوا، وولاة أمرهم أصيبوا بالهلع، فهؤلاء العرب ليسوا كما تم تصنيفهم: ملايين خاملة ولذا بدأ هجوم الثورة المضادة! سمها ثورات..انتفاضات.. تحركات، فهي انطلقت ولن تتوقف قبل بلوغ أهدافها: التغيير الشامل الجذري بإنهاء الفساد السياسي، والاقتصادي والأخلاقي، والوطني، وبناء دول معاصرة تحقق العدالة الاجتماعية. مهمات الجماهير العربية كبيرة، لأنها تغييرية جذرية، فهي ستنفتح على أهداف تجمع ملايين العرب لبناء مستقبلهم النهضوي الواحد، لأن النهوض في كل بلد على حدة لن يحقق خلاصا. بات جليا أن هناك قوى همها القفز لاحتلال سدة الحكم، وقطف نتائج الثورات قبل نضوجها، وهذه ستعيد إنتاج الدولة القُطرية من جديد، وإن بشعارات شمولية، ستبدو مغايرة بينما هي في الجوهر تنطلق من نفس العقليات الانتهازية والمتواطئة مع أعداء الأمة على أقدس قضاياها: فلسطين، والوحدة العربية. في الساحات والميادين اكتشفت الجماهير مدى قوتها، وأيضا، وبعد أن أسقطت رؤوسا كبيرة من على كراسي الحكم، تبيّن لها أن أنظمة الحكم ليست الرؤوس، فهناك ( قوى) فساد وخراب، وأجهزة قمع مستوطنة، ومصالح، وارتباطات، وهي حليفة للجهل والتخلّف، وفي الجوهر هي تابعة تستمد كثير من أسباب بقائها في الحكم من أعداء الأمة. الثورات العربية ثورة واحدة في حالة سيرورة، لن تكون ثورات تغييرية حقيقية إلاّ باستكمال كل أهدافها، وليس الرضى بالتغييرات الشكلية، أو التسليم لمن يقفزون على الثورات، والتغاضي عن( التحالفات) السرية. يمكن القول بناء على الوقائع أن الثورة العربية الواحدة مستمرة، وأن شعلتها ترتفع بأيدي ملايين العرب في كل أقطارهم الثائرة والمنتفضة، وأنها ستستمر في البلدان التي أسقطت فيها الجماهير رؤوس تلك الأنظمة، لأن إسقاط مبارك، وبن علي، وهذا ما اكتشفته الملايين في الساحات والميادين، لم ينه الاستبداد والفساد، ولم يُثبّت معالم الطريق إلى الديمقراطية، والحرية، والعدالة الاجتماعية ..ناهيك عن الانتماء للهوية وتبنّي قضايا الأمة. ولذا، ومع ما تحقق في تونس ومصر فإن الروح الثورية الحارسة اليقظة ستبقى مستنفرة، وهذا ما يطمئن، فالنفس طويل، والثورات لم تندلع فقط ليتمتع المواطنون بحق التصويت في صناديق اقتراع شفافة. الثورة تغيير جذري، وهذا لن يتم في شهر، أوعام ، فالمجتمع الذي طال نومه، وغربته في وطنه، المخرّب والمنهك، والمجهل حيث نسبة الأمية في بعض بلاد العرب تبلغ ال%40، وهذا ما يتيح للعقلية التواكلية أن تنتشر مستغلة غفلة وجهل الجماهير، وزرع روح المسكنة والذل بالتزوير. في الميادين، في بلاد الثورات، والانتفاضات، والحراكات..ثمّة قيم تطوى، وقيم جديدة بدأت تتخلّق وتنعش النفوس والعقول والضمائر..ثمّة مجتمعات يزحفون يوميا، يبلورون مفاهيم جديدة، يصححون رؤيتهم، يكتشفون طبيعة القوى السياسية، والاجتماعية، وأخلاقيات الساسة، يميزون بين ما هو صادق وما هو كاذب ومزور وانتهازي. في الميادين تتعلم الجماهير من ممارساتها اليومية، تتواصل إنسانيا، تنمي روح التضامن بينها، تصبح بدنا واحدا، وروحا واحدة، وحنجرة واحدة، وأهدافا واحدة بناء على رؤية مصالحها بوضوح. في الميادين إبداعات جديدة، غناء جديد، إعلام جديد يتخلّق متجاوزا الإعلام الرسمي الكاذب والإعلام المُدّلس الذي يتعامل مع الجماهير كما لو أنها قطعان لا تميّز. في اليمن تتجدد الثورة بالثورة على الفساد والفاسدين، بالاشتباك معهم، بطردهم..بالثورة في الثورة. شعوب العرب عرفت طريق( التحرير)، ومهما حاول بعضهم الالتفاف على الثورات، وإفراغها من أهدافها..فطريق التحرير بات واضحا، وزمن الخوف ولّى إلى غير رجعة، ونيران الثورات والانتفاضات لن تتوقف في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية . ولذا فالعام 2011 م سيستمر..والثورة العربية الواحدة ستوحد جماهير الأمة لإنجاز نهضتها وقيامتها. ستكون الكلفة عالية، ولكن الثمن سيكون خروجا من زمن الانحطاط إلى زمن الحرية والكرامة..زمن حضور العرب المهيب أسوة بالأمم العظيمة..أليس هذا من حق أمتنا؟!