لم يبق شكل من أشكال القهر الروحي والمادي الموجودين حالياً على الأرض أو الموروثين منذ قرون الطغيان السحيقة، لم يستخدمهما الكيان الصهيوني في قهر أشقائنا في فلسطين، سواء أكانوا في غزة أم الضفة أم في الأرض المحتلة منذ 1948م. وآخر أشكال القهر المتعمد والمرعب الذي تفتقت عنه العقلية الصهيونية، يتجسّد في منع الأذان من المساجد الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وفي المستوطنات الجديدة في الضفة تحت مبرر ما يسببه الأذان من إزعاج للمستوطنين. وليس بعيداً إذا ما استمرت الحال على ما هي عليه أن يأتي اليوم الذي يطالب فيه هؤلاء الصهاينة بإيقاف الصلاة في مساجد المسلمين أو في منازلهم لأنها تؤذي مشاعر الجلادين، وهذا كثير، بل أكثر بكثير مما تفرضه الغلواء الصهيونية العنصرية، وتحاول تجريبه على أشقائنا وأهلنا في أرضهم المستباحة والأسيرة دون أن يتحرك الضمير الإنساني العالمي حركة إيجابية يتجسّد فيها العدل والشعور بالمسؤولية الإنسانية. ولعل أحدث ما كان يدور في الأذهان، أذهان العرب وغير العرب من عقلاء الشرق والغرب والشمال والجنوب، أن الانتفاضات التي شهدتها وتشهدها الأقطار العربية، ومن أهم أسبابها التغوّل الصهيوني، كانت كفيلة بأن تردع هذا الصلف وتوقف مده المتزايد تجاه الشعب العربي الأسير في أرضه وفي نطاق وطنه التاريخي، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث بل زاد الجلادون المحتلون للأرض الفلسطينية شراسة واندفاعاً نحو المزيد من العنف والقمع اليومي، اعتقاداً منهم أن الأمة العربية الآن منشغلة بما يجري في أقطارها من انتفاضات وبحث دؤوب عن التغيير الذي يحرر الأقطار العربية المكبّلة بالمعاهدات والاتفاقيات التي جعلت الكيان الصهيوني يتوهم أن تلك الاتفاقيات قد منحته حق البقاء في الأرض السليبة، وحق الإيغال في سحق أصحاب الحق السليب. وبما أن الأذان، هو ذلك النداء الجليل الذي يربط الأرض بالسماء خمس مرات في اليوم، والذي يهز وجدان المؤمنين على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، فإن العنصرية الصهيونية لا تريد له أن يرتفع من الأرض التي استولت عليها بالقوة، ولا تريده أن يصل إلى السماء نداءً حزيناً شفافاً يعكس معاناة أرض الإسراء والمعراج التي أصبحت في قبضة المحتلين الذين لا يؤمنون إلا بالقوة والعنف. ومن الواضح أنهم تناسوا أن أرض فلسطين هي أرض الأنبياء الذين حملوا راية الهداية ومشاعل الحرية والعدل في ليل الإنسانية، وأن الأذان الذي يرتفع من الأرض التي روّوها بدمائهم يثبت أن الله هو الأكبر، وأن لا إله إلا هو، وأن تلك كانت رسالتهم الخالدة، ومهما اشتد الطغيان وتكاثر أنصاره، فإن البقاء والنصر لمن يحافظ على العلاقة الوثيقة بين الأرض والسماء. ولا أريد هنا أن أقول إن هذا الشكل الجديد من أشكال القهر الروحي سوف يضاعف من حقد المؤمنين بحرية العقيدة في كل مكان على وجه الأرض، وبخاصة أولئك الذين يؤمنون أيضاً بحق كل صاحب عقيدة أن يمارس شعائرها على النحو الذي تمليه عليه هذه العقيدة بعيداً من الضغوط والإرهاب وافتعال الأسباب لخنق الحرية والتسامح.