حين تجف الحياة في مجرى الروح وتفقد أجسادنا حرارة الحركة، ويحل الموت، يظل هاتف الشخص المتوفى صامتا إلاّ من الذكريات المخزنة في أرشيفه التقني ، ولأن بعض المشاهد والذكريات تفتح شرفات المواجع والأسى فإن أسرة المتوفى تقع في حيرة من أمرها بين فتح ذاكرة الهاتف الجوال بهدف مشاهدة الذكريات الموجودة عليه، وبين الحفاظ على خصوصية الميت وأسراره خصوصاً أن هواتفنا المحمولة، تمثل سجلات زاخرة بالمواقف الحياتية عبر لقطات الكاميرا ومقاطع الفيديو وأرقام الأهل والأقارب والأصدقاء، ولا يقتصر الهاتف الذكي على مثل هذه الواحة العامرة بالذكريات لكنه يحمل أيضاً أسرارنا الخفية وحساباتنا البنكية، وفي الملاحظات أيضاً هناك مذكرات شخصية وهوامش مديونات، وأرقام تخص أموالاً أقرضناها لغيرنا أو اقترضناها أو قدمناها على سبيل الإعارة، فهل تنسى أسرة المتوفى فاجعتها وتفتح شاشة الهاتف، وهل يمسح الأصدقاء أسماء المتوفين من ذاكرة جوالاتهم أم يتركونها، خصوصا وانه لا يخفى على الجميع أثر حزن فقد الأصدقاء والأقارب والأحباب وتأثيره من كافة النواحي الاجتماعية والنفسية. "البلاد" فتحت هذا الملف المفعم بالمشاعر والاحاسيس احيانا والتقت بعدد من ذوي المتوفين الذين تحدثوا بشفافية عن تعاملهم مع هواتف متوفيهم لافتين إلى أن هذه الجوالات وما تختزنه من ذكريات تعد أرشيفا يذكرهم بالمتوفي كما أن بعضهم يستخدم هواتف المتوفين للتواصل مع الأقرباء لكي يدعوا ويترحموا عليهم. في البداية قال أحمد فوزي أنه فقد خلال عام واحد أخاه الأكبر ووالدته منذ 3 سنوات ولا تزال ذكراهم تشغل وقته بشكل يومي في كل زاوية يشاهدها في المنزل وكل موقف يطرأ على باله، لافتا إلى أنه حتى اليوم لم يستطع أن يحذف رقم والدته أو شقيقه من هاتفه، وأنه يحتفظ بهواتفهم ويقوم بإرسال رسائل على الواتساب بشكل دوري للمقربين لهم ويحثهم على الدعاء لهم. معاني كثيرة من جهتها ذكرت مها بن يعقوب بأنها فقدت والدتها منذ فترة طويلة ، لافتة إلى أن هاتف والدتها يعني الكثير بالنسبة لها وهي محتفظة به ولا تسمح لأحد بأن يفتحه أو يستعمله. رسائل صامتة وقالت عالية محمد بأن شعور الفقد يحمل الكثير من الحزن في طياته فقد فقدت والدها ووالدتها واثنين من أشقائها وبدأت تشعر بخوف يعتريها كلما سمعت بأن أحداً من أقربائها مرض أو أصابه مكروه. وأشارت عالية إلى أنها تقوم كلما ضاقت بها الدنيا بإرسال رسالة لوالدتها على الواتساب تخرج فيها كل الكلام الذي يكتم أنفاسها مثلما تعودت في السابق عندما كانت والدتها على قيد الحياة. استعادة الذكريات ومن وجهة النظر الاجتماعية تقول المستشارة الأسرية والاجتماعية دعاء زهران أن هناك حسابات تحذف وأرقام تُمحى وأشخاص مازالوا مُترسخين في الذاكرة، وهناك من يقوم بحذف رقم المتوفى مجرد انتقاله إلى الضفة الأخرى لأن وجوده أصبح ليس له فائدة ولا هدف وفقا لمرئياتهم ، ولكن من وجهة نظري الشخصية، أنا مؤمنة بقضاء الله وقدرة ولكن من الصعب جداً أن ألغي أو أحذف أي ذكرى لشخص عزيز فقدته. ومن تجربتي الخاصة بعد وفاة أخي رائد زهران أصبحت أتابع وأتصفح جميع حساباته أكثر من الماضي وأشتاق لقراءة رسائله خاصة إذا كنت في موقف أحتاج لدعم .. وأنتظر الوقت الذي يلهمني الله القوة لكي أستطيع أن أسمع صوته في التسجيلات الصوتية. تعليق على الكتابات من جهتها تقول الكاتبة جواهر النهاري غالبا ما أقوم بحذف الأرقام التي تخص شركات الدعاية والإعلانات التجارية، ولكن بشكل شخصي لا أفضل مسح أي رقم من الأرقام الموجودة على جوالي كما أن رقم جوالي قديم جدا منذ 25 عاما أو أكثر، حتى لو تمت قطيعة بيني وبين أشخاص معينين أو إنهم توفوا إلى رحمة الله لا أحبذ فكرة مسح أرقامهم، فكل شخص صادفني في حياتي سواء كان سلبيا أو إيجابيا كان له دور في تشكيل شخصيتي وأثر في حياتي. وعلى صعيد شخصي بعد وفاة والدي إلى الآن نحتفظ بكل حسابات والدي رحمه الله في السوشيال ميديا ومازال رقمه موجودا في جروب العائلة على الواتساب ، وبعد كل فترة ندخل على حسابه في تويتر والفيسبوك ونقرأ ما كان يكتب ويعلق في صفحته ونحن بدورنا نهديه أدعية بالرحمة والمغفرة ونعلق على كتاباته في حساباته. حذف الأرقام أما إيمان أحمد فقررت حذف أرقام لأشخاص غير صادقين وهم أصدقاء المصالح والأشخاص الذين لا يتواجدون وقت الحاجة إليهم وأيضا الأشخاص الذين لا يتبادلون الاتصالات والسؤال عنها وتضيف إيمان بقولها : هناك زملاء عمل في حياتي لم يكونوا من المشاهير وبعد أن أصبحوا من المشاهير تنكروا لمعرفتهم لي وبالتالي هم أيضا من الأشخاص الذين أقوم بحذف أرقامهم وهذه تعتبر فلترة أقوم بها في كل سنة، وعلى الجانب الآخر هناك أشخاص تعرفت عليهم وتوفوا بسبب إصابتهم بكورونا وكان رحيلهم بمثابة صدمة لي مثل الزميل الراحل عادل المعمري الذي ما زلت محتفظة برقم الجوال وحساب السناب لم استطع حذفه من جوالي ، واكتشفت أن نجله ما زال يقوم بالتصوير وبث أحداث من حياة والده فلم استطع حذف الحساب وما زلت أتابعه. الاحتفاظ بالأرقام مراد الكحيلي لا يحذف أي أرقام من هاتفه مهما كانت الأسباب إلا في حالة واحدة ويوضح ذلك بقوله: لم أعتد على حذف أرقام من جوالي نهائيا إلا إذا تم إجباري على ذلك من خلال إعادة صيانة الجوال وفقد بعض الأرقام منها وهذا وارد جدا ، ومن الذكريات المؤلمة ان أحد أصدقائي رحمة الله عليه خرج من المستشفى ومازال في مرحلة العلاج ليفاجئني لحضوره يوم عقد قراني وكانت تلك آخر مرة أراه فيها، ورغم سنوات مضت على وفاته إلا أنني ما زلت محتفظا برقم جواله وحساباته على وسائل التواصل الاجتماعي ، وبين فترة وأخرى أدخل على حسابه على الفيس بوك والإنستغرام وأقوم بالتعليق على صور له وأتعايش مع حساباته على السوشيال ميديا وكأنه مازال حيا. تخفيف القائمة فريال باجبير الأخصائية الاجتماعية بمستشفى أحد بالمدينة المنورة تقول تختلف مواقف الأشخاص تجاه أرقام الآخرين في هواتفهم النقالة فهناك من يحتفظ بأرقام جميع من أساؤوا له ومن لم يسئ، وهناك من يفضل تخفيف قائمة الأرقام وجهة الاتصال من قائمة ليس لها فائدة له ، وفي كل الأحوال تتوقف هذه المسألة من شخصية لأخرى حيث أن هناك أشخاصا عندما يتم قطع علاقتها وتواصلها مع الآخرين تقوم بحذف وإلغاء كل وسيلة تواصل معهم سواء كانت أرقام هواتف أو حسابات على السوشيال ميديا، أيضا هناك من يحتفظ بتلك الأرقام والحسابات حتى لو فقد أحدهم بسبب الوفاة أو السفر والهجرة وغيرها من الأسباب كونه يشعر بالحنين ليعود بين حين وآخر لقراءة الرسائل أو مشاهدة الصور لتغطي شعور الحنين واسترجاع الذكريات.