قليلون هم أولئك الذين يعرفون معالي الشيخ كمال إبراهيم أدهم , ولكن كثيرون هم أولئك الذين يسمعون عن هذا الرجل الذي كان من أهم رجال الدولة إبان حكم جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز , بيد أنه كان لغزا لدى الكثيرين من غير المقربين حيث لا أحد يعلم تماماً ماهية عمل هذا المستشار بالضبط , وربما يكون هذا الأمر كذلك حتى اليوم , فالكثيرون لم يعرفوا عمل هذا الرجل البالغ من الذكاء ما بلغ والذي يعمل بصمت لا يشعر به إلا الملتصقون به جداً . زعم الكثيرون أنه رئيس المخابرات , وقال آخرون : أنه مسؤول عن شؤون الملك الخاصة وقال غيرهم غير ذلك والمتقولون كثيرون .. ولكن الحقيقة أنه لم يدرك الأكثرون حقيقة علاقة الرجل بالملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز , و أقصد هنا العلاقة العملية لا العائلية .. فالكل يعلم أنه رحمه الله هو أخ غير شقيق للأميرة عفت الثنيان والمعروفة في الحجاز بالملكة عفت وآخرون كانوا يطلقون عليها لقب التركية وهي ليست كذلك ولكن والدتها ووالدة أخيها الشقيق زكي الثنيان و أخواتها الغير أشقاء كمال و أحمد ومظفر , وهي السيدة الجليلة آسيا هانم المرأة الحكيمة التي كان يأنس الملك فيصل لجلستها و أخبارها عن العالم الإسلامي التي عرفتها كما لم يعرفها أحد. وعوداً على بدء , من هو معالي الشيخ كمال إبراهيم أدهم ؟. يقول معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم رحمه الله في كتابه ( أحمد صلاح جمجوم يتذكر ) : إن الشيخ كمال أدهم هو خال أبناء ولي العهد الأمير فيصل , و الشخصية المعروفة سواء في دورها الحكومي كمستشار للأمير فيصل ثم كمسؤول عن مكتب الاتصالات الخارجية أو في مجال التجارة والأعمال. والشيخ أدهم بالمناسبة شخصية مميزة بخلق وعفة و ثقافة عالية ووعي وذكاء وحكمة وكان رجل أعمال له نشاط كبير في مشاريع التنمية وقد أسهم خاصة بعد تركه للعمل الحكومي في العديد من المشاريع الرائدة وقد خدمته سمعته المستحقة كشخصية نزيهة وصادقة ومخلصة ويمكن الإعتماد عليها . وأقول والحق يقال : إن معالي الشيخ أحمد جمجوم كان يعرف تماماً من هو معالي الشيخ كمال أدهم وقد أوجز ببلاغة رأيه فيه , وهو رأي يعتمد عليه لما عرف من نزاهة و تدين الشيخ أحمد جمجوم وعدم مجاملته لأحد , ولا يقول إلا الحق ما استطاع . أعتقد أن القارئ قد عرف شيئاً عن هوية معالي الشيخ كمال أدهم , و لكن ما ذكره الشيخ الجمجوم لا يفي بالغرض ولا يشفي الغليل , فأولئك الذين يريدون أن يعرفوا رجلاً كان الناطق بلسانهم في التعبير و قلماً مهماً في كتابة تاريخ الأحداث في عالمنا العربي والإسلامي .. فمن هو الشيخ كمال أدهم؟. لا نبالغ إن قلنا إنه كان عراب العلاقات الفيصلية مع أمريكا والغرب و إيران ومصر . نعم هو ذلك الرجل الذي يملك من الأدوات ما يجعله يعرف ما يريده الفيصل تماماً فينقله بصنعته وحذاقته وقدراته وأسلوبه المناسب لصاحب المقام وكان يدرك تماماً أن لكل مقام مقال , وأعني بالمقال هنا الأسلوب لا الاختيار . أما دوره الوظيفي فكان يختلف تماماً عن دوره بحكم قربه من مركز صدور القرار . كان لجلالة الملك فيصل رحمه الله مكتب جمع فيه المستشارين وهم صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن عبد العزيز ومعالي الشيخ كمال أدهم ومعالي الدكتور رشاد فرعون ومستشار ديني لا أتذكر اسمه الآن , وكان الفيصل رحمه الله قد خصص لكل مستشار منطقة في خريطة العالم , يكون هذا المستشار مسؤولاً عنها , وقد نستطيع تجاوزاً أن نطلق على هذا المكتب مكتب المستشارين ( الدار البيضاء ) وكان لكل مستشار من هؤلاء المستشارين وظيفة غير وظيفة الإستشارة , وكان الشيخ كمال مسؤولاً عن تأمين الاتصالات السرية مع رؤساء دول معينة وأجهزة معينة , لذا ظن الكثير من الناس أنه كان مديراً للمخابرات السعودية التي كان يرأسها المرحوم معالي الشيخ عمر محمود شمس , وكانت مهام المخابرات التي تم تغيير اسمها لاحقاً في عهد صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل .. إلى مسمى الإستخبارات العامة يختلف تماماً عن مهام مكتب الإتصالات الخارجية الذي له مهام أمنية أخرى لا مجال لذكرها هنا. لقد كان هذا المكتب من أهم أجهزة الدولة السرية والعلنية خاصة في فترة التعبئة للحرب , العاشر من رمضان المبارك عام 1973م كان لهذا المكتب دور مهم في تلك الآونة لا يعرفه إلا القليلون من السعوديين و المصريين ممن كانوا على مقربة من قيادتي البلدين , وكذلك كان له من قبل دور في الحرب في اليمن قبل تكوين اللجنة الخاصة . على أية حال ليس ذلك هو المقصود في الحديث عن الشيخ كمال أدهم في مقالنا هذا ولكن المقصود هو الحديث عن هذا الرجل من الناحية الشخصية بعيداً عن العمل والسياسة , فقد كان من أكرم من رأيت في حياتي فكثيراً ما رأيته يحمل الظروف وفيها ما فيها تحت عباءته ليعطي كل موظف ظرفه مع إعتذار أنه يستحق أكثر , وكان يفعل ذلك كلما رزقه الله عز وجل برزق جديد , فكانت زكاة ماله تذهب للفقراء بحكم الله , أما إنفاقه الزائد عن الزكاة فكان يذهب للعاملين معه , إضافة إلى ذلك لم يعرف عنه أنه جاءه سائل يطلب منه شيئاً فرده دون عطاء . أذكر فيما أذكر أن مسؤولاً كبيراً في الدولة في ذلك الوقت كان كثير ما يكيل الذم ويشكك في كل مناسبة في الشيخ رحمه الله , وكانت لمزاته كثيراً ما تصل إلى معاليه فلا يكون ردة فعله إلا الابتسام وكان الأمر لا يعنيه , وفي يوم من الأيام جاءه هذا الهماز اللماز يعرض عليه رهن مصاغ زوجته مقابل مبلغ كبير من المال لأنه يمر بمشكلة كبيرة وضائقة مالية , فأخذ منه الشيخ المصاغ وقال : غداً سيكون ما تحب . وفي اليوم التالي حرر معاليه شيكا بمبلغ نصف مليون ريال وهو المبلغ الذي طلبه الرجل ودفعه إلى مدير مكتبه وقال له اذهب به إلى فلان و أعطه إياه ورد عليه مصاغ زوجته له : إنها هدية مني إليها .. فاستغربنا وحاولنا إثناء الشيخ عما يفعله فأصر وقال : أرحموا عزيز قوم ذل .. نعم هذه كانت أخلاقه . كان للشيخ شركاء كثر يعطيهم المال ليؤسسوا شركات ثم يسامحهم ويهنئهم إن نجحوا , أو يواسيهم إن اخفقوا , أما الخادمات والسائقون فحدث ولا حرج فقد كان كل من يريد خادمة أو سائقاً ممن حوله يساعده في استخراج فيزا بأسمه شخصياً ويقوم بدفع هو المصاريف في ذلك , حتى بلغ أعداد الخادمات والسائقين ممن هم على كفالته الآف فرحمه الله وجزاه عنهم خيراً . أما في الأعياد فقد كان نموذجاً في الكرم مع من يعرف ومن لا يعرف وكانت هباته تصلهم دون سابق اشعار فكان قصده بذلك إدخال السرور على الناس في المناسبات المفرحة . أما في البيع و الشراء فكان من أحسن من تتعامل معه في ذلك , فقد كان سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى مطبقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصد. كان لديه قوائم بكثير من العائلات الفقيرة في المملكة وفي مصر وغيرها من البلاد يرسل إليهم مرتبات ومعايدات قد تجاوز الملايين من الريالات . وكان له شركات تعمل في أهم الأعمال كالمقاولات والديكور والطيران والأدويه والصناعات المختلفة كما كان يملك الكثير من الوكالات لبعض شركات النفط التي تدر عليه الملايين , لكونه رجل أعمال من الطراز الأول يعرف كيف تستدر الأرباح ومع ذلك كان المال لا يشكل ذلك الجانب المهم في حياته وأموره الشخصية فكان يسعده إسعاد الآخرين ورسم البسمة على وجوههم حين تصلهم معونته ومعروفة فهذا خلقه الذي جبله الله عليه . عرفته وتعلمت منه الكثير السياسة وطرق حفظ الأمن, والتحليل في الأمور الخفية للوصول إلى السبب الذي وراء الحدث , كما تعلمت منه الفراسة فقد كان له فيها نصيب وافر أما الدين والتاريخ و الإجتماع فحدث ولا حرج فقد كان منهلاً لمن يريد أن يرد ويتزود , لا نبالغ إن ذكرنا هذا وأكثر فلا جرم أن الرجل قد تخرج من مدرسة الفيصل وأضاف إليها ما تزوده من غيره من أهل الحكمة ممن يمتون إليه بصلة فكان مستحقاً للقب مستشار الملك وذراعه اليمنى في السياسة الخارجية . وكان رحمه الله قريباً من الأسر الحجازية , فكان السبب في استوزار الكثير من الوزراء عند جلالة الملك فكان الملك رحمه يقبل تزكيته في الأشخاص الذين يرشحهم لأعلى المناصب فكم وكم له من أياد بيضاء حتى على كثير من الذين كانوا يحسدونه ويكيدون له ولكن ذلك لم يؤثر في الفيصل الذي يعرفه تماماً بينما أثر ذلك بعد رحيل الملك صاحب البصيرة الثاقبة فصدقه من أتى بعده ممن لم يعرف صفات هذا الرجل العظيمة فودع عمله في الدولة بعيون تذرف وقلب ينزف ولسان حال يقول ليتهم أخذوا كل ما أملك وسلمت من تجريحهم واتهامتهم ولقد انتقم الله له من الذين كادوا له وعلى رأسهم الرئيس العراقي صدام حسين. لقد واساه الملك خالد والأمير سلطان رحمهما الله , ولكن ظل الجرح إلى آخر أيام حياته .. ذهبت إلى زيارته في مصر في منزله الذي كان ناد لكل كبير و أمير في مصر فقال لي : " يا أحمد أنا أريد أن أنام ثم أستيقظ لأقرأ صحف اليوم ثم أعود لأنام ولا أستيقظ حتى لا أشعر بأي ألم من آلام الموت " , وكأنه رحمه الله يريد أن يقول أنه يريد أن يموت وهو نام وقد أعطاه الله ذلك . وظني أن ذلك كان لقاء ما عمله من خير في جبر خواطر الناس المحتاجين بتزويج محبين لا يملكان إمكانيات الزواج أو ترميم بيت يكاد ينهار أو علاج مريض لا يجد ما يتداوى به أو عزيز ذل أو كريم غاب عنه ملكه وغير ذلك من أعمال البر والخير . رحم الله أبا مشعل معالي الشيخ كمال إبراهيم أدهم رحمة واسعة و أسكنه فسيح جناته وعفا عنه وغفر له آمين . هذه كلمة وفاء ممن أسره معروف ذلك الرجل وأثر فيه علمه وعطاؤه , أسأل الله عز وجل أن يجعله في صحيفته ويجزيه به في جنات النعيم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.