محمد الزواوي .. لقد أدى ارتفاع أسعار الغذاء في الفترة ما بين 2007 و2008م إلى تداعيات خطيرة على الأمن الغذائي وعلى اقتصادات الدول واستقرارها حول العالم، ومن المتوقع أن تعاني إفريقيا من نقصان حاد في دخول الأفراد بسبب الأزمة العالمية الراهنة، حيث شهدت أكثر الدول تضررًا انخفاضًا في الدخل وصل إلى 50 %، طبقًا لتقرير نشرته مؤسسة «أكشن إيد» المعنية بالشئون الإنسانية والإغاثية. ويشير التقرير المعنون «أثر الأزمة الاقتصادية على الدول النامية» إلى الطرق المختلفة التي تؤثر بها الأزمة المالية على اقتصادات الدول النامية وبخاصة في القارة السمراء، ويظهر التقرير أن الدول الأكثر تضررًا هي تلك التي فتحت قطاعها المالي بصورة أكبر في السنوات الماضية للاستثمارات الأجنبية مثل جنوب إفريقيا، وقد التقى رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون القادة الأفارقة في لندن مؤخرًا لمناقشة آثار الكساد على اقتصاداتهم قبيل قمة مجموعة العشرين في أبريل، ويتوقع التقرير الذي نشرته مؤسسة أكشن إيد للأبحاث أن أفريقيا سوف تعاني من نقص حاد في الدخول سوف يصل إلى أكثر من 49 مليار دولار في الفترة ما بين 2007 ونهاية 2009. ويشير التقرير إلى أن هذا النقصان الحاد جاء بسبب كل من الأزمة المالية والكساد العالمي، فمن ذلك التقلص الحاد في الدخول هناك 22 مليار دولار بسبب الأزمة المالية، و27 مليار دولار بسبب الانخفاض في عوائد التصدير ونقص المساعدات والدخول من الدول الغنية التي تعاني هي نفسها من الكساد. وتعادل تلك الخسارة انخفاضًا قدره 10% من كافة مداخيل القارة، وأكثر الدول تضررًا من الأزمة المالية سوف تكون جنوب إفريقيا التي سوف يصل انخفاض الدخل فيها إلى 50 بالمائة. وقد صرحت كلير ميلاميد رئيسة قسم السياسات بالمؤسسة قائلة: «بالرغم من أن الدول النامية لم تتسبب في هذه الكارثة إلا أنه من الواضح أنهم الآن أصبحوا في خط النيران الأمامي فيما يتعلق بالمعاناة من أسوأ تداعياتها». وقد أظهرت أعداد متزايدة من الدراسات أن الليبرالية الاقتصادية قد أثبتت قصورها في الدول التي كانت تهدف إلى جذب الكميات المتزايدة من الأموال والتي لم تشهد بالضرورة زيادة كبيرة في نسب التنمية الخاصة بها، كما أظهرت الأرقام أن إفريقيا سوف تشهد نقصانًا في إجمالي الناتج القومي بنسبة 6% مقارنة بفترة ما قبل الأزمة. العلاقة ما بين الغذاء والأزمة المالية : هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى كارثة غذائية وإلى تفاقم أسعار الغذاء مثل الزيادة السكانية وارتفاع أسعار الطاقة، كما أن دعم إنتاج الوقود الحيوي أدى إلى ارتفاع استهلاك المنتجات الزراعية مما أدى إلى ارتفاع أسعارها، وفي الوقت نفسه فإن الإنتاجية والنمو الإجمالي قد أضيرا بشدة بسبب القيود على استخراج المصادر الطبيعية جراء الأزمة، وبالرغم من أن مشكلة الغذاء والأزمة المالية العالمية نبعتا من أسباب مختلفة، إلا أنهما تلاقيا وتقاطعا في تداعياتهما على الاستقرار المالي والاقتصادي وعلى الأمن الغذائي وكذلك على الأمن السياسي للبلدان الفقيرة في إفريقيا. فقد أضيفت مشكلة الغذاء إلى التضخم العام في تلك البلدان وإلى عدم استقرار الاقتصاد الكلي لها مما يحتم على الحكومات سرعة التحرك بفرض سياسات مالية ونقدية جديدة لمواكبة الأزمة. وفي الوقت نفسه فإن الأزمة المالية وما يصاحبها من تداعيات من تباطؤ في النمو قد دفعت أسعار الغذاء مرة ثانية إلى مستويات منخفضة بسبب قلة الطلب على السلع الغذائية وعلى علف الحيوان وعلى الوقود المصنع من المواد الغذائية مما أدى إلى تذبذب في الأسواق الغذائية، كما تقلص التوسع في الإنتاج الزراعي بسبب ندرة رؤوس الأموال وحرص المستثمرين على الانتظار حتى تبين تداعيات الأزمة؛ لذا فإن إفريقيا بحاجة إلى حلول متزامنة ومنسقة لتخفيف تلك الضربة المزدوجة لفقراء القارة السمراء. الضربة المزدوجة للفقراء: وحتى قبل مأساة الطعام العالمية فإن أفقر دول العالم كانت تعاني من المجاعات والأزمة الغذائية، كما أدى ازدياد أسعار الغذاء إلى تقويض الأمن الغذائي لهم وأدى إلى تهديد حياة الطبقات الأضعف عن طريق تآكل قدرتهم الشرائية المحدودة أصلاً. فتشير التقارير إلى أن الفقراء ينفقون ما بين 50 إلى 70% من دخلهم على الغذاء وحده وليس لديهم قدرة للتكيف مع ارتفاع أسعار الغذاء، كما أن أجور العمال غير المهرة انخفضت تماشيًا مع الأزمة العالمية. ومن أجل التعايش مع الأزمة فإن الأسر الفقيرة في إفريقيا التي تعيش على دولار يوميًا قامت بتخفيض استهلاكها للغذاء وتحولوا إلى أنظمة غذائية أقل توازنًا وأنفقوا أموالاً أقل على البضائع والخدمات الأخرى التي تعد أساسية لصحتهم وللعيش الكريم مثل المياه النقية ووسائل النظافة والتعليم والرعاية الصحية. وقد قامت الصين بالاستثمار في الزراعة في عدد من الدول الإفريقية، ولكن الدول المستقبلة لتلك المنح الزراعية بحاجة إلى تقنين تلك الاستثمارات وإلى ضمان مشاركة المنتجين المحليين في التنمية الزراعية. سيناريوهات الكساد: هناك العديد من المناطق النائية واجهت نموًا اقتصاديًا عاليًا في السنوات الماضية، فقد حدث نمو في الدول النامية في آسيا في الفترة ما بين 2005 و2007م بمقدار 9% وفي إفريقيا بمقدار 6% سنويًا، ولكن في 2008م ومع بداية الأزمتين الغذائية والمالية حدث تباطؤ في النمو وتم خفض سقف الطموحات. ومن المتوقع أن تحدث حالة انخفاض في النمو الاقتصادي في المرحلة القادمة تؤثر بدورها على الاستثمار وعلى الإنتاجية، بتداعيات مباشرة على الغذاء حول العالم. فيتوقع المعهد الدولي لأبحاث سياسات الغذاء أن هناك سيناريوهين لأزمة الغذاء في الفترة القادمة التي من المتوقع أن تؤثر على النمو والإنتاجية والاستثمارات في مجالات الزراعة، والسيناريوهان كالآتي: السيناريو الأول: سوف يقل معدل النمو الاقتصادي فيما بين 2 إلى 3 بالمائة على حسب المنطقة، ولكن في الوقت ذاته سيتم المحافظة على سياسات حكيمة في المجالات الزراعية والإنتاجية والاستثمارية. السيناريو الثاني: سوف يقل النمو الاقتصادي كما هو الحال في السيناريو الأول ولكن مع انخفاض الاستثمار في المجالات الزراعية وبذلك تقل الإنتاجية وللأسف أن هذا السيناريو هو الأقرب حدوثًا. وطبقًا للسيناريو الثاني فإن أسعار الحبوب الرئيسة سوف تزداد بصورة حادة، وربما تسفر عن أزمة غذائية طاحنة في النهاية. ويتوقع أن تتضاعف أسعار الذرة الشامية والقمح والأرز بحلول عام 2020م لتصل إلى 27 و15 و13 % على التوالي مقارنة بالسيناريو الأول، وكنتيجة لحالة الكساد فإن الفقراء في القارة من المحتمل أن يستهلكوا طعامًا أقل، ومن المقرر أن تنخفض السعرات الحرارية بنسبة 5% بحلول عام 2020م، وفي بعض المناطق سوف تكون الآثار أشد قسوة، ففي دول جنوب الصحراء الإفريقية على سبيل المثال سوف تقل نسب استهلاك السعرات الحرارية بنسبة 10% بحلول عام 2020م طبقًا للسيناريو الثاني، وعلى مستوى العالم سوف يعاني 16 مليون طفل من سوء التغذية عام 2020م وسوف تزداد نسبة الأطفال المصابين بسوء التغذية في دول جنوب الصحراء الإفريقية مقارنة بدول العالم بمقدار 20% طبقًا للسيناريو الثاني. ولكن إذا ما تمكنت الدول النامية والمستثمرون من الحفاظ على الإنتاجية الزراعية والاستثمارات في ظل وجود الكساد فيمكنهم تجنب العديد من الآثار السيئة للتباطؤ في النمو، ويمكن أن تنخفض حينها أسعار الحبوب الأساسية وكذلك أعداد الأطفال المصابين بسوء تغذية وسوف يزداد استهلاك السعرات الحرارية لكل فرد بحلول عام 2020م مقارنة بالسيناريو الثاني. التغلب على الأزمة: لأن الفقراء يختلفون في مصادر دخلهم فإنهم أيضًا سيضارون من الأزمة بصورة مختلفة، ولكن على أي حال فإن الفقراء هم الخاسر الأكبر بغض النظر عن طبيعة الأزمة التي ستضربهم، وبخاصة النساء والفتيات، ولكن سيضار أيضًا الفئات الضعيفة مثل الأقليات وذوي الاحتياجات الخاصة؛ لذا فمن الضروري أن تخاطب الحلول المستويات المحلية والعالمية لمواجهة التحديات العاجلة للفقراء والمحتاجين؛ لذا فإن السياسات الاقتصادية والزراعية الإيجابية مثل زيادة الاستثمارات في المجالات الزراعية يمكن أن يمنع النتائج الكارثية، وفي ضوء الأزمة المالية والقيود على إنفاق الأموال من البنوك الخاصة، فيجب على الحكومات أن تسهل إجراءات الاستثمار، وفي الوقت ذاته فإن قرارات الاستثمار في الزراعة يجب أن تتجه ناحية استغلال الفرص الجديدة وتحقيق مرونة للتحديات المستقبلية. وفي ظل الأزمة المالية العالمية سوف تحظى المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي بأهمية كبيرة مع تقلص رؤوس أموال القطاع الخاص وفقدان الثقة من البنوك والمناخ الاستثماري المحبط؛ لذا من المهم أن تحافظ تلك المؤسسات الدولية على تركيزها على الإنفاق في الطعام والغذاء لحل أزمة الأسعار، وأن تصبح تلك المؤسسات أكثر دعما لتمويل الأبحاث في مجالات العلوم والتقنيات الزراعية. وقد جاءت الاستجابة الدولية والإقليمية إيجابية حتى الآن وتضمنت تعهدًا بدعم المساعدات الغذائية وبالتدخل من أجل رفع حالات سوء التغذية وفي نشاطات الحماية الاجتماعية والإجراءات من أجل زيادة الناتج الزراعي في الدول الأكثر تأثرًا بالأزمة. ولكن بالرغم من ذلك فمن المهم الوفاء بالأموال التي تم التعهد بها في الوقت المناسب وأن تستثمر في الأهداف المناسبة. وتقدر مؤسسة أوكسفام Oxfam أنه لم يتم إنفاق سوى مليار دولار فقط من الاثني عشر مليارًا التي تعهدت بها منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في قمة الأمن الغذائي في يونيو 2008م؛ لذا يجب متابعة التزامات الدول تجاه تلك الأزمة المالية والغذائية ومن أنها سوف تفي بتبرعاتها. والجدير بالثناء أن كلا من الهندوالصين تعهدتا بزيادة استثماراتهما في مجالات الحماية الزراعية والاجتماعية بنسبة 27 و24% على الترتيب في عام 2008م؛ لذا يجب الحفاظ على تلك الاتجاهات الإيجابية لكي تحذو حذوها الدول الأخرى. وهناك مزيد من الإجراءات التي يجب اتخاذها من أجل حل أزمة أسعار الغذاء ومواجهة التحديات المستقبلية ولتقليل الفقر والجوع في إفريقيا، وهناك ثلاث مجموعات من الإجراءات السياسية التكميلية التي يجب اتخاذها: 1. الترويج للنمو الزراعي في مصلحة الفقراء. 2. التقليل من تذبذبات الأسواق. 3. زيادة برامج الحماية الاجتماعية وإجراءات حماية الأطفال من سوء التغذية. لذا يجب أن يتم الاستثمار في مجالات البحث والتنمية والبنية التحتية للمناطق والمؤسسات النائية وأن يكون هناك تداولاً للمعلومات. وبالرغم من أن الإنفاق على البحث والتنمية في المجالا ت الزراعية يعد من أكثر أنواع الاستثمار فعالية في الترويج للنمو الاقتصادي وتقليل الفقر، إلا أن ذلك الإنفاق قد أصابه الركود منذ التسعينات، فقد أظهرت دراسة أجراها المركز الدولي لأبحاث سياسات الغذاء أنه إذا تضاعف الاستثمار في الأبحاث العامة للزراعة من 5 مليارات إلى 10 مليارات من الدولارات في الفترة من 2008م إلى 2013م فإن الناتج الزراعي سوف يزداد بصورة حادة وسوف يخرج ملايين البشر من تحت خط الفقر في إفريقيا. وإذا ما تم توجيه الأبحاث والتنمية إلى المناطق الفقيرة في القارة مثل جنوب الصحراء الإفريقية فإن إجمالي الناتج الزراعي سوف يزداد بنسبة 1.1 نقطة سنويًا ويرفع ما يقرب من 282 مليون إفريقي من تحت خط الفقر بحلول عام 2020م. كما أن زيادة الاستثمارات في مجالات الأبحاث والتنمية الزراعية سوف يكون له أثر هام على أسعار الغذاء العالمية، وقد أشارت المجموعة الاستشارية للأبحاث الزراعية العالمية أن هناك العديد من المجالات الجيدة التي يمكن الاستثمار فيها زراعيًا، بما في ذلك برامج زيادة إنتاج الأسماك وزيادة إنتاج الحبوب وأيضًا مكافحة الآفات الزراعية ومعالجة أمراض الماشية مثل حمى الساحل الشرقي، ومثل تهجين أنواع من الذرة الشامية تستطيع أن تنمو في المناطق التي يضربها الجفاف، كما يمكن الحصول على منتجات زراعية غنية بالفيتامينات والمعادن مثل فيتامين (أ) ومادتي الزنك والحديد، والكثير من تلك المشروعات توفر فرصًا على نطاق واسع للشراكة مع القطاع الخاص في التخطيط والتنفيذ لتلك المشروعات، وتشارك أيضًا في النفقات والمخاطر. توفير الحماية الاجتماعية وتحسين تغذية الأطفال في القارة: إن إجراءات تحفيز النمو الزراعي وتقليل تذبذب الأسواق ليست وحدها كافية للوصول إلى الأمن الغذائي في تلك الأزمة المالية العالمية المعقدة. فنحن بحاجة أيضًا إلى إجراءات حماية لتخفيف المخاطر قصيرة الأمد بالإضافة إلى إجراءات وقائية لتقليل التداعيات السلبية طويلة الأمد، وبخاصة توفير برامج الحماية الاجتماعية في إفريقيا. وإجراءات حماية مثل وجود أنظمة معاشات وبرامج توظيف، أما البرامج الوقائية فتكون في مجالات الصحة والتغذية مثل صرف وجبات للتلاميذ في المدارس ووجود برامج لتحسين الحالة الغذائية للأطفال في السن المبكر والتي يجب إطلاقها في المناطق الفقيرة في إفريقيا وبين الفئات الأكثر ضعفًا. إن القارة الإفريقية تعاني من نقص المعلومات والبيانات الحديثة بشأن أثر الأزمة المالية على مختلف القطاعات في القارة، وتلك البيانات والإحصاءات من شأنها السماح لصناع القرار على المستويات المحلية والدولية لكي تستخدم لتحقيق أفضل النتائج. كما يجب وضع أولويات وجداول زمنية ويجب أيضًا أن تتميز تلك البرامج بالشفافية والمصداقية لضمان نجاحها.