من هذا – الشباك – الذي نطل منه على ذكريات مضت وقد حرصت على أن تكون لأناس قد كانت لي معهم مواقف مباشرة لا عن شخصيات لها مكانتها الفكرية والأدبية ولكن لا يوجد لهم مواقف معي شخصياً، لهذا أسجل اعتذاري إن أنا لم أذكرهم. ثانياً هذه الذكريات - عن الذين رحلوا إلى بارئهم وليس عن من يعيشون معنا متعهم الله بالصحة والعافية وطولة العمر. هناك سيدات ذوات حضور واضح، وذوات اقناع كبير بكل ما تقوم به من أعمال، وهن حكيمات كأقدر ما يكون عليه الحكماء من ذهنية فذة، ومن هؤلاء تلك السيدة التي أعاود الحديث عنها هذه المرة بعد أن مرت ذكرى وفاتها . إنني أحدثكم اليوم عن جدتي "جميعة" تلك المرأة الفارعة الطول القليلة الكلام الكثيرة الأفعال.. فهي عمود الارتكاز لخيمة "الحي" الذي اندثر في حموة المشاريع الضخمة تلك التي عاشتها المدينةالمنورة فهي أول من يعنى بشؤون أسر الحي نراها لا تهدأ في الدخول إلى ذلك البيت الذي يعاني فيه أحد أفراده من أحد الأمراض فهي الطبيبة التي تصف الدواء، وتذهب إلى العطار "بادرب" في سوق الحبابة او باب المصري طيب الذكر، وتأتي بالوصفة فيذهب عنه البأس لتدخل في ذلك الصباح الباكر الممطر إلى أحد البيوت في ركن الحي وفي يدها "مبخرة" تشم رائحة الفاسوخ من بعيد لتعرف أن في ذلك البيت امرأة على وشك الولادة. فيفتح لها الباب سريعاً، وما هي إلا هنيئة وتسمع صراخ الطفل لقد أولدت على يديها كل أبناء ذلك الحي فهي "جدتهم جميعاً" بالتوليد والعناية بهم. الفرح ويوم الكريموه أما في الأفراح فهي لا يبرم فرح أحد على واحدة إلا من خلال معرفتها السابقة لتلك المناسبة فتتولى هي كل الترتيبات ابتداءً من "الكحل" ونوعية "المكحلة": وشكل – مرودها – مرورا بكل أطايب الزينة حتى الحناء الذي له يوم خاص يسمونه يوم "الحناء" هل هو أحمر اللون أو أسوده. بل يذهب بها الاهتمام بيوم – الكريموه – حيث تجتمع صديقات العروس من البنات غير المتزوجات عندها في بيتها مباركين لها ويحتفلون بها بنثر حزم النعناع والورد والفل عليها وهي تهبط من الدرج لقد كانت عادة ذهبت الآن. أما في الأتراح لابد أن تكون هي المرتكز إذا ما ألمت بأحد سكان الحي مصيبة "الموت" نراها هي القيمة على كل ما يتعلق بتلك المصيبة من اهتمام ورعاية لأصحاب تلك "المصيبة" تقوم بذلك بإيمان عميق وبهمة لا نظير لها.. أما إذا ما حدث خلاف بين زوجين، وهو نادراً ما كان يحدث في ذلك الحي "المستسلم" بإيمانه "الطافش" من كل ما يبعده عن التلاحم فتدخل بكل عزيمة واقتدار على انهاء ذلك الخلاف ولها دالة على "الرجل" قبل المرأة لحكمتها، وقدرتها على تفهم طبائع الناس، ولايمان ذلك الرجل بصوابية رأيها.امرأة لا تعرف "فك" الحرف.. ولكنها قادرة على "تفكيك" كل مشاكل الحي. اصبحت لها شخصيتها، ولها مكانتها في قلوب أصحاب ذلك الحي.. كان الأطفال يخافونها باحترام لا خوف كره وعناد، وكانت هي تراهم كأبنائها الذين لابد أن ترعاهم حق رعايتها.وكانت نساء الحي يرين فيها المرأة الصارمة التي لابد أن يخضعن لكل ما تصف لهن سواء كان على انفراد أو مجتمعين عند احداهن في أحد ضحاوي النهارات الجميلة.وكان رجال الحي يرون فيها الملاذ في تصحيح مسار زوجاتهم إذا ما حدث لحياتهم ما يعكر صفو الحياة. يوم "الفراق" كان ذلك اليوم يوماً حزيناً شعر كل من عرف عنه بانه فقد تلك المظلة التي كان يلوذ تحت ظلالها إذا ما أدلهمت الأمور رغم تشتت أهل ذلك الحي.. فقد توافدوا على بقية ذلك الحي الذي شهد أحلى أيامهم وقد أصابته يد التغيير وبرحيلها لم يبق لهم أي ذكرى فيه إنه يوم – الفراق – الذي اتى في يوم لا ينساه أبدا حيث أحس بانه فقد متكأ كان لا يحتاجه لكن وجوده كان مطمئناً له. لقد ذهبت إلى بارئها راضية مرضية، لها من الصور الجميلة في النفوس التي عاشت معها وبها الشيء الكبير والكثير.. كانت واحدة من كثيرات، كان لا يخلو منهن حي من أحياء المدينةالمنورة ففي كل حي هناك من تدور حولها رحي الحياة تدخل الى البيوت وهي تحمل في ذاتها كل علامات الصلاح والفلاح لذلك الحي. إنها واحدة من أولئك النسوة اللاتي لا يخلو مجتمع، ولا حتى حي من أمثالها. فهناك نسوة يملكن من قوة الشخصية والحكمة والروية ما يعجز الكثيرون ان يدركوه.. وتلك حكمة الله يؤتيها من يشاء. رحم الله جدتي جميعة مدني التي نطلق عليها أم الحي وكاتمة الأسرار إنها واحدة من حزمة نساء في بقية تلك الأحياء المتلاصقة في تلك المدينة الطيبة بناسها الطيبين.