لا تكاد تغشى مجلساً الا وحديث الناس في مجمله عن العمر وتقدم السن كأنه الهاجس الذي لا يخبو من ذاكرتهم او عنها.فبكل تأكيد ان العمر ما هو الا مجموعة ايام وشهور ومن ثم سنين تتراكم حتى يصل الانسان الى حد النهاية. ويبدو ان سن الثمانين كان في الاولين له خطورته وقساوته على انفسهم فهذا الشاعر عون بن ملحم الشيباني في قصيدته الشهيرة يقول ذلك البيت من الشعر: إن الثمانين وقد بلغتها قد احوجت سمعي إلى ترجمان وقال مهران ابن ابي سلمى: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين عاماً لا أبا لك يسأم نعم الشعراء قد توقفوا عند الثمانين في ذلك الزمان عندما كان متوسط عمر الانسان في الاربعين، لكن الغريب ان واحداً يبلغ "الستين" في هذا الزمان ومتوسط عمر الانسان فيه تجاوز "الستين" يكاد ينعي نفسه.وذلك هو البحاثة نجيب عصام يماني وقد اتضح لنا ذلك من خلال هذه الدردشة التي جرت على لسانه.قلت له : وقد بلغت "الستين" زادك الله عمراً مديداً وبحياة سعيدة كيف تنظر الى تلك الايام التي مضت؟. - آه.. مضى قطار العمر ليبلغ اليوم محطة "الستين" ويا لها من محطة لأول مرة أدرك ان "الرحلة" أوشكت على نهايتها، آخذاً في اعتباري أن الأعمار بيد الله، لكنني موقن أن "الستين" وإن أفسحت فسحة من عمر بعدها، إلا أنها بداية النهاية، فما أحوجني لوقفة أقرأ فيها بصوت مسموع سطوري التي مضت، ونبضاتي التي هربت من قلبي، وأيامي التي تساقطت من دفتر ورزنامة حياتي.. فرّت من قلبي نوارس الفرح وانطفأت شموع خضر في قبو روحي. ما هي الفوارق التي شعرت بها عند بلوغك الستين من العمر؟ - عندما كنت في ميعة الصبا وفورة الشباب، تملكني إحساس صادق بأن صرخة الميلاد ليست إلا إيذاناً ببداية النهاية، كنت أقف متأملا قول القائل ".. وكل دور إذا ما تم ينقلب"، لذلك وطنت تنفسي منذ باكر حياتي أن أجعل لهذا "الدور" قيمة تضيف إلى الحياة ولا تنقص منها، ألا أكون مجرد رقم في إحصاء النفوس، ولا فرداً يعرف ب "بطاقة الأحوال"، وإنما كان لزاماً عليَّ أن تكون لحياتي معنى، ولدوري وجود ولذاتي حضور يشرفني ومن أنتمي إليه، وإضافة ترضي طموحي. يقال ان ما قمت به هو بحث عن مساقط النور لك في الحياة؟. - لم أكن مأخوذاً في ذلك ببريق الضوء، أو رغبة التشوف لاعجاب الناس وثنائهم، وإنما كان همي أن :أنا" بغير رياء أو سمعة، أن أجهر بالحق متى ما رأيت لذلك ضرورة، أن أقف حيث تكون المروءة، أن أجعل من محامد الخصال، ومستطاب الفعال نبراساً وقدوة اهتدي بها في منعرجات وما كان ذلك إلا ثمرة لبذرة غرسها والدي في روعي وخاطري وفكري، رحمه الله رحمة الأبرار وأثابه عني خير الثواب والجزاء فيا رب ارحمهما كما ربياني صغيرا. معنى هذا انك كنت تمضي بوعيك الذي يحتم عليك الصبر والبحث يعني بهذا الوعي مضيت؟ - نعم بهذا الوعي والخلال الموروثة مضيت في طريق الحياة تلوح لي آمال عراض والدم في شرياني فوار بالشباب، كلما كبا فرس الرهان استعدت جذوته، لم أترك لليأس نافذة يطل منها على نفسي.. كأي إنسان في هذا الوجود مرت بي لحظات سعدت فرحت بها من كل قلبي، ومرت عليّ أحزان أسالت دمعي، فاحتملتها بالصبر والجلد .. خابت آمال وصدقت أخرى، وكل ذلك تركته في دفاتر الأيام وديعة. الآن ماذا ترى في ما مضى من الحياة التي عشتها؟ - أتأمل الآن صحيفتي بعد هذه العقود الستة التي مرت، وقد علا الشيب المفارق وكحال النفس اللوامة لا تلوح لي فيها الا ثقوب من أخطاء اقترفتها يداي ساعة غفلة، أحس بالرهبة والخوف إن لم يتداركني الله برحمته، فما كان ذلك عن "إصرار" معاذ الله ولكنها "خطى كتبت علينا، ومن كتبت عليه خطى مشاها" أقف عندها موقف النادم، واستعرضها المستغفر صدقاً، والراجي رحمة ربه يقيناً وإيماناً.. لقد كل الحرص أن التزم جانب الرفق والتيسير والوسطية، مستذكراً في خاطري سماحة ديننا الحنيف منظوراً في سيرة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وآله ومقروءاً في سيرة آل بيته الأبرار وصحابته الميامين. ما كنت تطالع به المتلقي الم يوجد لك بعض الابهامات معه فيما تطرح؟ - فلشد ما كان يحز في نفسي التنطع والتزمت في الدين فكثيراً مما كتبت في هذا الجانب ومقارعة الآخرين به، فلئن أصبت فمن الله كانت الهداية والتوفيق، وإن جانبت الصواب فحسبي صدق النية، وسلامة المقصد. يقول العارفون بأهمية الكتاب بأنه أحد الأسس التي ينطلق منها الكاتب ليعطي اين يأتي اهتمام الكتاب لديك؟ - اتخذت الكتاب صديقاً في عمري، ويا له من صديق، تعاركت مع أفكار حملتها حروف ناثريها، اتفقت مع رؤى مبدعة اضافت لحياتي الكثير، واختلفت مع اخرى اختلافاً لم يفسد للود قيمة، شرعت قلمي مدافعاً عما أيقنت به وآمنت، فقرظت حين كان التقريظ واجباً، وانتقدت حين وجدت أن لا سبيل إلا الجهر بالرؤية المخالفة. يقال انك تطرح مواضيعك وانت تبحث عن ذلك القول "خالف تعرف" هل هذا صحيح؟ - أدرت مساجلات كثيرة، حتى ذهب البعض الى الاعتقاد بأني "أخالف لكي أعرف" والله يعلم أن ذلك لم يكن مرادي وقصدي، وإنما كتبت ما كتبت من باب القناعة والالتزام بالحجة، اجتهدت في أن أعضد ما أكتبه وأقوله بالحجة والدليل، غير هياب ولا وجل ما دمت على الحق ظناً أو يقيناً تراجعت عن بعض ما اعتقدت فيه فلست بالمعصوم ومتى ما أدركت الحقيقة التزمت بها، فلم أكابر، ولم أتخندق في حيز رؤيتي، فلئن كان بعض "الرشاش" في حديثي وكتاباتي كان نال البعض، فإني استغفر الله منه، وأطلب الصفح الجميل ممن أحس ذلك مني، فما كانت بغيتي إلا الحقيقة. يعني انك لم تكن مفتئتاً على الحقيقة وعلى الصدق في نواياك؟ - وليرجع إلى مقالتي على مدى هذه السنوات الطويلة من أراد أن يعرف الحقيقة ان كل قول انما أوثقه بالدليل مشيراً الى المرجع بصفحته وجزئه لم أفترِ ولم أكذب. انت اين هذا الوطن الذي يهمك في كل صورة وشؤون وشجون تفاصيل حياته؟ - نعم بكل تأكيد انني مدين لهذا الوطن وولاة أمره بكل الحب والتقدير والاحترام. كيف ترى اصدقاءك في مسيرتك التي تراها طالت ببلوغك الستين؟ - كان الاصدقاء ومازالوا هم زهرة حياتي، بهم عرفت للحياة معنى، سامروني بقلوب مشرقة، وتقاسموا معي خطوات الحياة بصدق النفس حين تكون على سجيتها، محضوني النصح خالصاً، وآزروني وقت الشدائد والمصائب، جعلوا لحياتي معنى، ولأيامي رونقاً وبهاء.. فيا أيها الأحباب الأعزاء الأصدقاء شكراً لمحبتكم الخالصة، شكراً لقلوبكم العامرة، شكراً لودّكم الذي لم تشبه شائبة من رياء أو سمعة. انت تذكرني بذلك الشاعر الذي قال: والثمانين قد بلغتها.. الى آخر البيت ان الستين قمة الشباب وهو نظرة لحياة جديدة نعم.. أقف اليوم على مشارف عهد جديد من عمري، مدركاً أن كل شيء الى نقصان بعد "الستين" انضجتني التجارب، وصقلتني الأحداث.. تركت الأحزان جرحها في نفسي، ورسمت السعادة صورتها كذلك.. وما بين هذه وتلك كانت أسرتي عضدي وسندي، احتملتني رفيقة دربي بأقصى ما يكون الاحتمال، وصبر عليَّ أبنائي بمحبة وألفة أشكر الله عليها معتزاً بهم جميعاً، لقد اجتهدت في أن أوفر لهم حياة كريمة.. وغداً حين ينطوي العمر لعلهم يدركون انني سعيت لسعادتهم، وحرصت على تجنيبهم كل مشاق الحياة، وتركت لهم سيرة لا أحسب أن فيها ما يحرجهم أو ينقص من قدرهم. في آخر هذه – الدردشة ماذا تود ان تقول؟ - آخر قولي: اللهم إني مقبل إليك لا محالة، فرحماك ربي بعبد مثقل بالذنوب، موقن بك ربا، وبحبيبك المصطفى صلى الله عليه واله وسلم نبيا، وبدين الإسلام خاتماً للرسالات، لا رجاء لي إلاَّك ولا ملاذ لي إلا عفوك، فاعف عني انك عفو كريم تحب العفو.