عندما أتذكر مرض والدي وعافيته من مرضه أتذكر كيف عاده الناس أفواجاً أفواجاً في منزله، جاؤوه فرحين مستبشرين، استقبل الناس أواخر ذي الحجة ومحرم وصفر وغرة ربيع الأول، استقبلهم وكأنه يودعهم، نعم ودَّع الأحياء وهو يقول «الحمد لله الذي أراني محبة الناس لي». كنت أعيش تلك الأيام فرحاً وخائفاً، فرحاً بعافية والدي وخائفاً عندما أسمعه يردد «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين». كان - رحمه الله - في تلك الأشهر يشكو رأسه، ويقول: رأسي يا فهد، رأسي يا عبدالعزيز، رأسي يا أنس. كنت في قلق ووجل، أدخلته مستشفى الحرس بالرياض، كان دخوله يوم الاثنين 14 ربيع الأول، ظل ليلة الثلاثاء والأربعاء والخميس، وليلة الجمعة أُغمي عليه، ثم ظل يحضر ويغيب. كان - رحمه الله - يحب أن يسمع القرآن مني، ويقول لي صوتك حسن وقراءتك مؤثرة، وكان في مرضه يردد الآيات خلفي، ويقول: لا تعجل يا فهد حتى أكرر معك. قرأت أول (يس) وهو في آخر لحظاته فأخذ يردد بعدي، اجتهد الأطباء أن يدفعوا أو يرفعوا ما نزل، ولكن لا دافع ولا رافع لما نزل. كنت أطمع أن يحرسه الحرس، ولكن لا حرس من أمر الله. وفي يوم الأحد 27 ربيع الأول، وبعد الصلاة الوسطى، كنت عند رأسه، وصدره يجلجل، فعلمت أنها روحه، وما هي إلا لحظات حتى فاضت روحه إلى بارئها. حملنا جثمانه الطاهر قبل غروب يوم الأحد من مستشفى الحرس، حملناه على سيارته - يرحمه الله - وكان يحب أن يخدمه ماله، وحقق الله له ذلك. انطلقنا مسافرين من الرياض إلى القصيم في ثلاث سيارات. اتصلت بالشيخ الدكتور صالح الونيان (إمام وخطيب جامع الخليج ببريدة) واستأذنته أن أصلي على والدي فأذن لي. غسلته بنفسي ومعي أخواي عبدالعزيز وأنس، وأدرجناه في أكفانه، ثم أذنا للأعمام والأصحاب والجيران بتقبيل جبينه وتوديعه، كما ودعته قبلات بناته وأبناء وبنات إخوانه، حتى العمال من جنسيات مختلفة أقبلوا يقبلون جبينه الطاهر، الذين كانوا يجلسون معه على مائدته - يرحمه الله -. لقد رأينا في وجهه بعد موته الضياء والنور. كانت الصلاة عليه بعد ظهر يوم الاثنين 28 ربيع الأول. حضرت جموع غفيرة من الناس، مع أنه لا يوجد إلا جثمان أبي، ولم تكن هناك جنائز أخرى، ولم أبعث رسائل من جوالي؛ حيث طار صوابي وذهب عقلي؛ لأن والدي هو كل شيء في حياتي؛ فهو الأب والصديق والجار والمعلم والمواسي - يرحمه الله -. تقدمت وصليت عليه أربع تكبيرات، وحملناه على الأعناق مشياً علىالأقدام، ثم صليت عليه ثانية في المقبرة، وخلفي جموع المصلين. أنزلته في قبره، وصففنا اللبن عليه، دفناه وأقبل الناس يعزون. فلله الحمد أني كنت له الصديق والجار والابن البار، كنت معه من صغري في سفره وإقامته، وفي مرضه وعند وفاته، كانت وفاته يوم الأحد 27 ربيع الأول، وأدخلناه قبره يوم الاثنين 28 ربيع الأول. هو (التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)، وكان لا يحب أن يُذكر في مجمع أو محفل، سليم الصدر، طيب المطعم، واضح المنهج، لا يحقد ولا يحسد ولا يحمل ضغينة، لا يمكر وغافل عن المكر، لا يراوغ، ولا يخادع ولا يكيد أو ينتقم أو يسخر أو يكذب، لا يغش وينفر من أهله، صريح وواضح الفكرة، كلامه لا نفاق فيه أو تزلف أو مداهنة أو تصنُّع، محب للجميع (ما في قلبه على لسانه)، يعرف ذلك كل من جالسه، عرف بسلامة الصدر ونقاء السريرة، يرحم الصغير والكبير، عطوف رحيم.. لقد رأيت في أبي صدق العمل؛ فهو للعمل أقرب منه للقول، رأيت فيه الحياء وقول الحق، وسلامة القصد، لا يسمح بل يغضب أن ينسب له عمل لم يعمله، يكره الأنانية، أو أن يستغل الناس، بعيد عن المتشابه فضلاً عن الحرام، كريم، أضيافه كثيرون، يجود بماله، ولا يخشى الفقر، حتى ظن الناس أنه يملك القناطير المقنطرة، يحب الاجتماع مع إخوانه وأفراد أسرته، جمع عشيرته وأبناء عمه في مناسبات عدة، سعى في اجتماع أسبوعي وشهري وسنوي لإخوانه وبعض أبناء عمه، فكان له الفضل في ذلك، كما أمضى عقدَيْن من الزمن أو يزيد في جمع شجرة (التويجري) حتى خرجت بأحسن حلة، فحاز قصب السبق في هذا الميدان، فلله دره ما أنبله وأصدقه في صلة الرحم وأكرمه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا يظهر عمله، يذكر إحسان الناس إليه، وينسى إحسانه إليهم، قام على مسكن أرملة وأيتام حتى اكتمل البناء، فلم يذكر فعله ذاكر، أو يشكره شاكر، اتصلت بي من درعا المنصورة في سوريا (بنت ابن جده لأمه) تبكي بكاء الرضيع، وتقول: يا فهد إن أباك كان يبعث لي شهريا 600 دولار، أي ما يساوي 2500 ريال. واتصلوا من بغداد يبكون. كان - رحمه الله - صادقاً في العمل، أما الأقوال فتركها لمن يحسنون القول لا العمل. لم يقل لنا يوماً من الأيام افعلوا كذا أو لي عليكم حقوق، أو كونوا مثلي، لا يعرف الرياء إلى قلبه طريقاً، لم يكن يحب الشهرة أو يبحث عن الأضواء، في أكثر الأحيان أذهب معه لمناسبات مختلفة، فلا يسمح ولا يرضى أن يقود السيارة غيره، وإذا جئناصراً أو استراحة أو منزلاً أوقف سيارته بعيداً، وإذا دخل مجلس جلس حيث انتهى به المجلس، يلبس المشلح في بعض المناسبات فإذا كنت معه أقول له: تقدم يا أبي حيث صدر المجلس فيقول: قد يحضر من هو أكبر مني سناً. إذا استضاف الناس في منزله لا يجلس في صدر المجلس بل يتركه لغيره، وإذا جلس الناس على مائدة العشاء كان آخرهم جلوساً، يجلس مع الضعفاء وعمال مزرعته، يأكلون مما يأكل، ويشربون مما يشرب، ويمشي مشية المتواضع لا فخر ولا خيلاء، لا يلتفت أبداً، مشغول بنفسه، لا يدعو على مسلم أبداً، بل حتى الكفار يقول: اللهم اهدهم، اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عندما قال له الصحابة: يا رسول الله ادعو على دوس فقال: «اللهم اهد دوس وأت بهم» فأتوا مسلمين. رواه البخاري. ووالله ثم والله ثم والله إني منذ نعومة أظفاري وهاأنا ابن الأربعين لم أسمعه يدعو على ولد أو جار أو ظالم، بل إن شخصاً دعا عليه بغير حق فقيل له ادعو عليه كما دعا عليك أو قل له كما قال لك، أو قل (حسبي الله عليك) فقال: لا لا لا ما دعوت على أحد في حياتي، كل سيجد ما عمله. بنى مسجداً بجوار منزله وسكناً للإمام والمؤذن، قلت له مداعباً عندما شرع في بناء المسجد «لو جعلتني يا والدي إماما، كي أسكن في بيت المسجد»، فقال: لا، لا أريد شخصاً من أولادي حتى لا أجامله». ومن أشهر وأميز ما رأيت فيه الصدق والعدل والكرم والحياء والتواضع. أما الصدق فإنه واضح وصريح حتى مع زوجاته. له زوجتان أمي وخالتي، إذا سألته إحداهما أين كنت؟! يقول لها: ذهبت مع فلانة أو اشتريت لفلانة يعني زوجته الأخرى.. إلخ، يخبرها بالحقيقة، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - (عندما سألته عائشة أين كنت منذ اليوم؟! فقال: كنت عند أم سلمة). والعدل في عمله وبين أولاده، فإنه كان مديراً لمتوسطة الجزيرة، ثم ابن خلدون، ثم القادسية ببريدة، وعندما انتهيت من المرحلة الابتدائية، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، رغبت منه أن أكون طالباً في مدرسته حتى أكون عزيزاً بين الطلاب فرفض، وقال: لا يا فهد أخشى أن أتعاطف معك، ابحث عن مدرسة أخرى، وفعلاً لم أدرس في المدرسة التي كان أبي يديرها. وأما الحياء فإنه كان شديد الحياء، خاصة إذا خرجنا إلى سوق أو مجمع أو مناسبة. وعزائي أن هذه صفاته نقلتها من حياته، فأنا ابنه البكر وأقرب الناس إليه، وأكثرهم تعاملاً معه، وقد توفي وهو ابن 66 سنة. (اللهم إن سليمان بن عبدالله التويجري في ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم).