عبر خوضهم معارك "الأمعاء الخاوية"، بشعارها الأثير: "نعم لآلام الجوع . . ولا لآلام الركوع"، طالما كسر الأسرى الفلسطينيون إرادة جلاديهم، وحققوا انتصارات تخفيف معاناتهم وتحسين شروط عيشهم . وفي مرات عدة، أطلق الأسرى الشرارة التي أشعلت هبّات جماهيرية تحولت، بتوافر شرط قيادتها السياسية، إلى انتفاضات عارمة، امتدت سنوات، ونقلت المشهد السياسي الفلسطيني من حال إلى حال مختلفة نوعياً . حدث ذلك، (مثلاً)، في مارس/ ،1986 حيث أشعلت شرارة الإضراب المفتوح عن الطعام لهؤلاء الأسرى هبّة جماهيرية مهدت لاندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى في ديسمبر/كانون الأول عام ،1987 وتكررت التجربة حين قاد إضرابهم عن الطعام في مايو/ 2000 إلى هبّة جماهيرية شكلت بروفة لانتفاضة الأقصى المسلحة في سبتمبر/ من العام ذاته . واليوم، ثمة فرصة لاستعادة السيناريو ذاته .الهبّة الجماهيرية الفلسطينية الجارية، (كسابقاتها البعيدة والقريبة)، لم تندلع بقرار، بل أشعلها حدث التنكيل بالأسرى، وكان يمكن أن يشعلها أي حدث آخر، بل، ويمكن أن يجددها مثل هذا الحدث، لكن تطوير هذه الهبّة، (وهي المهيأة والقابلة لذلك)، إلى انتفاضة شعبية عارمة وممتدة، يبقى بحاجة إلى توافر شرط وجود قيادة سياسية وطنية موحدة لديها الاستعداد لتحمل أعباء اتخاذ قرار بذلك، علاوة على القناعة بأن الانتفاضة الشعبية، (بوصفها خياراً سياسياً وليس فعلاً ميدانياً فقط)، هي الخيار الأجدى في إدارة الصراع مع الاحتلال، بل، هي الخيار الوحيد المتاح أمام الفلسطينيين بعد ثبوت فشل الرهان على خيار المفاوضات العقيمة التي طالت، وأخذت حظها من التجريب، أكثر من اللازم، ولم تسفر، ولن يسفر استئنافها المتوقع، في المحصلة النهائية، إلا عما يعيشه الشعب الفلسطيني، في الوطن والشتات، من مأزق، أنتج ما تعيشه فصائل وأحزاب الحركة الوطنية من مظاهر التفكك والتشرذم والانقسامات والالتباسات متعددة الأشكال والأوجه، وما تعانيه الحالة المجتمعية من انتشار لمعضلات الفقر والبطالة وفقدان الأمن المعيشي، وما يعصف بالمؤسسة الوطنية التمثيلية الجامعة من أزمة، أنتجها، ويعمقها، غياب وحدة الرؤية والبرنامج والقيادة . وهو المأزق الذي تعمل "إسرائيل" التوسعية العدوانية بطبعها، نظاماً وحكومات، على توسيعه، وتعميقه، وعلى استغلاله لتسريع إجراءات استكمال مخططات التهويد والاستيطان وتقطيع الأوصال، ناهيك عما يوفره لها من فرص التمادي في تصعيد ممارسات سياسة الحصار والتجويع والقتل والجرح والاعتقال وإطلاق يد قطعان المستوطنين في الاعتداء على المقدسات وحرق الحقول والمزروعات . . إلخ . على أية حال، قد تخفت ألسنة هذه الهبّة الجماهيرية، بسبب عدم توافر قيادة سياسية وطنية موحدة مقتنعة ومستعدة لتطويرها إلى انتفاضة شعبية. لكن كل هذا لن يكون قادراً إلا على تأجيل اندلاع الانتفاضة الشعبية كخيار سياسي صار مفروضاً على الشعب الفلسطيني خوض غماره، ذلك لأن سياسة "إسرائيل" تجاه الأسرى الفلسطينيين، القائمة على أن لا حقوق لهم، بل احتياجات تُمنح وتُسحب تبعاً ل"حُسن السلوك"، هي ليست إلا جزءاً من استراتيجية "إسرائيلية"، بل صهيونية، أشمل لا ترى في الفلسطينيين شعباً له قضية وأرض وحقوق وطنية وتاريخية مغتصبة إنما، مجرد "مجموعات سكانية غير يهودية"، تعيش على أرض "دولة" "إسرائيل"، وتحت سيادتها، لها احتياجات حياتية يلبيها قيام "إدارة ذاتية"، مطلوب منها عدم ممارسة "الإرهاب"، بل، ومحاربة من يقوم به، أيضاً، ما يعني أن هنالك في جوف هذه السياسة "الإسرائيلية" المدعومة، بل المرعية، من الولاياتالمتحدة، ما يجعل المسافة بين هبّة جماهيرية فلسطينية تخفت وأخرى تشتعل، مسافة سياسية بامتياز، بمعزل عن السبب المباشر الذي أشعل هذه الهبّة أو تلك . بل، إن هنالك في جوف هذه السياسة، فضلاً عن التمادي في ممارساتها، ما يجعل اشتعال سهل الشعب الفلسطيني كله، وتطور هبّاته الجماهيرية المتلاحقة إلى انتفاضة شعبية عارمة وممتدة، خياراً محتوماً، لا مناص، ولا مفر، منه، تقدم الأمر أم تأخر . وهذا ما تحذر منه قيادات "إسرائيل" الأمنية، التي تنصح بعدم الاكتفاء بالمعالجة الأمنية، لأنها تعي، قبل وأكثر من غيرها، حقيقة أن إدماء الهبّات الشعبية الفلسطينية المتوالية لن يفضي إلا إلى صب الزيت على النار، وبالتالي، إلى تكرار ما حصل في العام ،1987 (الانتفاضة الأولى)، وفي العام ،2000 (الانتفاضة الثانية).