بمزيج غريب من مشاعر الفرح والأمل والغضب والخوف والشك انطلقت انتفاضة 25 كانون الثاني (يناير) الشبابية، وتواصلت أحداثها لتصنع ملحمة عظيمة في الصراع بين الحكم وبين حق الشعب في التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية. وبغض النظر عن نتائج هذه الانتفاضة المباركة فإنها أصبحت وبكل المقاييس نقطة فارقة في تاريخ مصر، وربما تتحول الى ثورة، لتصبح أول ثورات مصر في القرن الواحد والعشرين، أو ربما تظل مجرد انتفاضة شعبية تدفع النظام – وبتشجيع أو ضغط خارجي – لتجديد نفسه وتغيير وجوهه! وأخشى أن يكون السيناريو الأخير هو الأقرب الى التحقق، بمعنى ألا تتحول الانتفاضة الى ثورة تغير النظام، بل الى مناسبة لإصلاح النظام من داخله وتجديد آلياته ورموزه التي شاخت، وتيبست مفاصل نخبتها وعقولها، وتجمدت أفكارها عند ثمانينات القرن الماضي. وأعتقد أن عملية الإصلاح ستكون محدودة، وقاصرة وفي الأغلب بائسة. من هنا أرى أن النجاح في تحويل انتفاضة كانون الثاني الثانية الى تغيير حقيقي وشامل أو ثورة بالمفهوم المتعارف عليه يتطلب من الطيف الجماهيري والسياسي الواسع الذي يشارك فيها اعترافاً واضحاً بخمسة تناقضات رئيسة، والتعايش مع تلك التناقضات والسعي للعمل في ظلالها، حتى التوصل الى حلول مرضية في شأنها، وهذه التناقضات هي: 1- إن أحد أهم عناصر قوة الانتفاضة يتمثل في أنها انطلقت واستمرت، بلا قيادة وبلا أيديولوجية محددة أو برنامج متفق عليه للتغيير، مما وسّع من القاعدة السياسية والاجتماعية للمشاركين فيها، ومكّن الجماهير من أن تتقدم وبمسافة كبيرة في الوقت والتنظيم والمطالب السياسية والاجتماعية على النخبة السياسية التقليدية (أحزاب المعارضة و «الإخوان» والجمعية الوطنية للتغيير)، ومع توالي أيام الانتفاضة سبقت الجماهير أيضاً القوى الشبابية التي دعت الى الانتفاضة، (لاحظ أن كل الأحزاب والحركات الشبابية فوجئت بالانتفاضة) لكن التناقض هنا أنه من الصعب كما تعلمنا تاريخ الثورات أن تستمر الثورة وتتعمق من دون أطر تنظيمية وقيادة وبرنامج متفق عليه للتغيير. وبالتالي أرى ضرورة أن تتشكل قيادة للانتفاضة يتوافق المشاركون فيها على برنامج حد أدنى للتغيير السياسي والاجتماعي، أي أن يتم حل التناقض بين جسم الانتفاضة الهائل ورأسها المحدود والمنقسم على نفسه، والإشكالية أن النخبة السياسية التقليدية في أحزاب المعارضة و «الإخوان» وكذلك الحركات الشبابية الاحتجاجية والجمعية الوطنية للتغيير غير قادرة على الاتفاق على قيادة جماعية يتمثل فيها كل الأطراف – من دون استبعاد أحد – أو برنامج للتغيير بل وغير قادرة على الاتفاق على شخص يتم تخويله صلاحيات قيادة مرحلة انتقالية بعد إسقاط النظام. 2- إن الافتقار الى أطر وهياكل تنظيمية سواء فعلية أو افتراضية تحفظ استمرارية الانتفاضة، وتمنحها القدرة على الحوار والتفاوض حول مستجدات الواقع ومتغيراته السريعة والمتلاحقة، يعتبر بلا شك أحد مشكلات الهبّات والانتفاضات الجماهيرية السريعة، وهنا قد ترد المقارنة مع الانتفاضة التونسية الأخيرة ومع انتفاضة كانون الثاني الأولى عام 1977، فالانتفاضات والهبّات الجماهيرية تتخذ غالباً طابعاً شعبياً عريضاً وانتشاراً جغرافياً واسعاً، كما أنها تتسم بالسرعة والقوة، وتتجاوز الأطر التنظيمية والسياسية القائمة، وهو ما يلخصه التعبير الشهير أن الجماهير تسوق القيادات، وبالتالي فإن الانتفاضات المصرية كما هو الحال في انتفاضة 1977 كانت بلا رأس، أي لم يكن هناك من يقودها أو ينظم أفكارها، ومن ثم وقعت في براثن قصر النفس والمطالبات المحدودة، فبمجرد أن أعلن السادات عن إلغاء قرارات رفع الأسعار ونزول الجيش توقفت الانتفاضة، والتي استمرت ليومين فقط، بينما استمر نظام السادات من دون أن يجدد نفسه أو يقدم إصلاحات ذات بال، واستخدمت انتفاضة 1977 كفزاعة لتخويف الناس من التظاهر، لأنه يؤدي الى الفوضى والتخريب، حتى إن السادات وصفها ب «انتفاضة الحرامية» لما ارتبط بها من بعض مظاهر التخريب والتي تعتبر وفي كل التجارب المجتمعية وخبرات العالم نتيجة سلبية متوقعة لغضب ملايين المتظاهرين في الشوارع، وقيام بعض الخارجين على القانون أو رجال الأمن بتدمير المنشآت العامة والخاصة وارتكاب سرقات لتشويه صورة الانتفاضة. وفي انتفاضة كانون الثاني الثانية استخدمت بعض مفردات سيناريو كانون الثاني 1977، ومع كثير من مفردات سيناريو انتفاضة تونس، حيث تعمد البعض سحب الشرطة وقوات الأمن لتعم الفوضى وينتشر المجرمون من معتادي الاجرام لخلق معادلة غير أخلاقية وغير وطنية تقوم على: إما استمرار النظام أو الفوضى والتخريب، لكن الشعب المصري استوعب الخطر سريعاً وشكل الشباب والشيوخ لجاناً شعبية لحفظ الأمن والنظام بدت وكأنها مدارس للكشف عن الجوهر الحقيقي للشباب المصري ولاستيعاب طاقته للبناء والخدمة الوطنية عوضاً من انشغاله بكرة القدم والاستهلاك. فهذا الشباب الذي تعلم وخاض تجربة الثورة يمارس بحزم تجربة الحفاظ على الأمن والاستقرار. من هنا ضرورة العمل على: أولاً، احتواء أي خروج عن الطابع السلمي للانتفاضة، وردع أي محاولات للاعتداء على المال العام والخاص، وثانياً: العمل على إيجاد أطر تنظيمية تتسم بالمرونة والقدرة على استيعاب شباب الانتفاضة على ما بينهم من اختلافات فكرية وسياسية، فضلاً عن احترام الآخر والاحتكام الى الديموقرطية، ومثل هذه الأطر قد يتيحها العمل الميداني أو تتيحها شبكة الانترنت ووسائل الاتصال والتفاعل الاجتماعي، لكن التناقض هنا أن الحكم قد أعلن حرباً اتصالية وتكنولوجية، فطوّقت خدمة الانترنت و «الفيسبوك» و «تويتر»، وخدمات الهاتف المحمول، وهي الأدوات التي اعتمد عليها الشباب المصري في الدعوة الى الانتفاضة وتنظيمها، لذلك لا بد من البحث عن حلول تكنولوجية جديدة تخترق الحجب والمنع الحكومي، ولا بد أيضاً من إعادة استخدام وسائل اتصال تقليدية حتى يمكن الاستمرار على الزخم الذي صنعته الانتفاضة وتعظيم الاستفادة منه. 3- ضرورة الاعتراف بالطابع الشبابي للانتفاضة، فالشباب وبعيداً من الأحزاب والأشكال السياسية التقليدية – ومتقدماً عليها – صنع انتفاضة كانون الثاني الشعبية الثانية، ومع ذلك هناك تناقضات في معسكر شباب الانتفاضة، فقد ضمت انتفاضة كانون الثاني الثانية خليطاً غريباً وعريضاً من شباب الحركات الاحتجاجية وشباب الأحزاب والأهم شباب «الفيسبوك»، أغلبهم من دون انتماء أو خبرات سياسية سابقة، نجحوا في تحويل المشاركة الافتراضية الى مشاركة واقعية وفعل سياسي واجتماعي مؤثر. هؤلاء الشباب لا تجمعهم أفكار واحدة، ربما باستثناء المطالبة بالتغيير والحرية، كما لا يتفقون على رموز أو قيادة من بينهم، ففي المجتمع الشبكي الكل متساوون، ولا يوجد زعيم أو رئيس، وتابعون أو جماهير، فالتفاعل والندية والآنية هي قواعد للفعل الافتراضي والواقعي، ولا يؤمن أغلب شباب الانتفاضة – كما هي حال بقية أحزاب وقوى المعارضة – بمفهوم النخبة الواعية أو الطليعة الواعية، مقابل مفهوم الجماهير التي قامت أجهزة الحكم ووسائل الإعلام بتزييف وعيها، وبالتالي فإن دور الطليعة (الشباب هنا) ينحصر في توعية وحشد وتنظيم الجماهير وقيادتها للفعل الثوري. لا تؤمن غالبية شباب الانتفاضة بهذه المفاهيم، كما لا تذعن لمركز وحيد يدعي امتلاك المعرفة والسلطة، بل إن هناك مراكز متعددة عبر الارتباط الاجتماعي والسياسي، والتنوع الخلاق. 4- التناقض بين شباب الانتفاضة وبين كافة الأحزاب والأشكال التنظيمية التقليدية مثل جماعة «الإخوان»، فالشباب سبقوا الأحزاب والتنظيمات التقليدية، إذ دعوا للانتفاضة وقاموا بتنظيمها في العالم الافتراضي والواقعي على رغم تردد وعدم ترحيب قيادات أغلب الأحزاب وجماعة «الإخوان» بالخروج في تظاهرات يوم عيد الشرطة وهو إجازة رسمية، ومع ذلك أصر الشباب ونجحوا، وهنا اجتهدت بعض القيادات الحزبية وقيادات الجمعية الوطنية للتغيير في اللحاق بهم، ثم حاول محمد البرادعي بعد تأخير طويل امتطاء الموجة الثورية، وصيغت على عجالة بعض الشعارات والمطالب السياسية، والتي كانت الانتفاضة الشبابية - الشعبية قد تجاوزتها بالفعل، فالقيادات الحزبية وقيادات الجمعية الوطنية للتغيير – ومعظمها من الشيوخ –لم تستجب للهتاف الغالب في كل التظاهرات «الشعب يريد تغيير النظام»، كما لم تركز على مطلب العدالة الاجتماعية، هذا المطلب الذي كان بمثابة المحرك الرئيسي في الانتفاضة. فقد اكتفت هذه القيادات بمناشدة الرئيس عدم ترشيح نفسه أو ابنه، بينما كانت حناجر الشباب في ميدان التحرير تطالب بما هو أكبر وأعمق. وقد تبدو هذه التناقضات وكأنها نتيجة طبيعية لاختلاف الأجيال والخبرات والتجارب السياسية، لكنها أيضاً ترجع لأسباب خاصة أولاً بثورة الشباب ضد شيخوخة وشيوخ النظام، بما في ذلك رؤساء الأحزاب وحركات المعارضة و «الإخوان»، فمن يثور على شيخوخة وجمود النظام الحاكم، تتضمن ثورته – حتى وإن لم يعلن – الثورة على شيوخ المعارضة ورموزها وطرق تفكيرهم القديمة، فالحكم وأحزاب المعارضة هم أبناء جيل واحد وطرق بالية في التفكير، كما أن النظام نجح في احتواء أحزاب المعارضة الرسمية وتدجينها. وتعود هذه التناقضات ثانياً الى الاختلاف في طريقة التفكير والخبرة في العمل السياسي لدى الشباب والتي تدمج في صيغ مبتكرة بين الافتراضي والفعلي، مقابل خبرة قيادات أحزاب وجماعات المعارضة في العمل السياسي التقليدي من خلال وسائل تقليدية كالتنظيم الهرمي غير المرن الذي يمنح الرئيس سلطات واسعة، والمؤتمرات والخطابة والتفاوض وغيرها من وسائل العمل السياسي أو الدعوي التي تنتمي للقرن الماضي، والتي يرفضها الشباب ويقدمون بدائل عنها مهمة وفاعلة، وأثبتت نجاحاً كبيراً في انتفاضة كانون الثاني الثانية. 5- إشكالية غياب برنامج سياسي واضح للانتفاضة، والافتقار الى قيادة متفق عليها، فمن الطبيعي في ظل التناقضات في صفوف الشباب، وبين الشباب والأحزاب والأشكال التقليدية أن لا يتفق الجميع على رمز أو قائد للانتفاضة، أو رؤية برنامج واضح للتغيير في مصر، فالبرادعي خسر كثيراً من رأسماله الرمزي بسبب غيابه الطويل خارج مصر، وموقفه من ثورية يوليو، فضلاً عن دخوله في صدامات مع فاعليات ورموز الجمعية الوطنية للتغيير. أما بالنسبة الى رؤية التغيير وحدوده ومضمونه الاجتماعي الاقتصادي، فتكاد تكون غائبة بل إن ما يتوافر منها في برامج الأحزاب يثير خلافات عميقة ولا يجمع أو يوحد، فثمة رؤى من أقصى اليسار الى أقصى اليمين وصولاً الى الدولة الدينية. صحيح أن هناك مطالب واضحة في شأن ضرورة الإصلاح الديموقراطي وعدم التجديد للرئيس وعدم التوريث ومحاربة الفساد والبطالة، لكن هذه المطالب لا تكفي لبلورة رؤية حد أدنى لمضمون وتوجه التغيير المطلوب، كما إن بعضها يتسم بالتعميم، وبالتالي فإن الدخول في التفاصيل مثل طبيعة الدولة وتعديل الدستور يثير مشكلات وخلافات عميقة بين شركاء انتفاضة كانون الثاني الثانية، وبالتالي أرى من الضروري أن يعترف شركاء الانتفاضة بهذه التناقضات ويعملوا عبر الحوار والفعل السياسي المشترك وصندوق الانتخابات للوصول الى اتفاقات وحلول وسط في شأن مستقبل التغيير. أخيراً أعتقد أن التناقضات السابقة تحتاج الى تفكير ابتكاري، وتخلٍّ طوعي لبعض قيادات ورموز المعارضة والحكم عن سلطتهم، أو حتى قدر منها، حتى ينفتح الطريق نحو مستقبل أفضل، مستقبل يتعايش فيه، ويعمل جميع الفرقاء بجدية، ويمارسون الاختلاف، ولكن يحتكمون دائماً الى صناديق انتخابات لا تعرف التزوير أو تزوير إرادة الجماهير. * كاتب مصري