أن يغادر مسئول ما منصبه في استراحة محارب بعد زمنٍ حتى وإن طال قليلا ليس أمرا غريبا. إلا أنه يصبح مستغربا حينما تكون المغادرة اختيارية بحتة انطلاقا من قناعات يؤمن بها الكثير وربما يتحدثون عنها ولكنهم لا يطبقونها. قبل سنوات كتبت مقالة تحدثت فيها عن سمو الأمير الأمين عبد العزيز بن عياف ذكرت فيها أن الأمين لابد أن يكون «علامة فارقة» ذات تأثير في تاريخ المدينة وإلا فإن النسيان هو من سيتعامل معه. وأحسب أن حالة الرياض مع عبد العزيز بن عياف حالة استثنائية ربما كحالتها الخاصة مع سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله. كانت البداية قبل حوالي خمسة عشر عاما حين اختار أمير الرياض آنذاك مهندسا معماريا بلغ للتو أشده ليكون أمينا للمدينة. كان حسن الاختيار بداية مرحلة جديدة للرياض مع نمط مختلف لأمانتها. وابتدأ ابن عياف لمسيرته مسارا صعبا تجاوز تقليدية المعروف عن التعامل مع العمل البلدي. وكان بإمكانه أن يظل مختلفا حتى في تلك الحدود إلا أنه آثر أن يحاول بجهد أن يخلق تجربة جديدة في الأسلوب والنواتج. وحظي ذلك التوجه ونجاحه بمشورة ودعم سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي ساند الرؤى الجديدة للعاصمة الرياض، والتي اتخذت من «الإنسان» المحور لخططها وبرامجها. لم تقصِّر الأمانة في محاولة الإيفاء بمهامها المعروفة حين طرقت مجالات جديدة لم تعتدها المدن وسكانها وإن استحقوها وربما انتظروها. وكانت هناك بدايات متعددة تعرَّض بعضها للقدح قبل أن تخطو خطواتها الأولى لعل من أبرزها احتفالات العيد والتي كانت مثار تندُّر إما باعتبارها تطفُّلا على ما ليس من أوليات الأمانة أو بالعطف على الأمانة لخوضها مالا تُجيد ربما انطلاقا من رؤية قاصرة عما للمدينة من إمكانيات. وبعد سنوات من الحرص ووضوح الرؤية والإخلاص في العمل استطاعت الرياض أن يُشار إليها بالبنان للسبق في مجالات أصبحت بعض المدن الأخرى التي كانت أسبق تتسابق لحذوها القذة بالقذة. تطوير برنامج لأنسنة المدينة من قناعة الأمين أن الإنسان لابد وأن يكون غاية كل تنمية، ربما يكون السمة الأبرز لمسيرة الرياض خلال السنوات الماضية. وكان من نتاج ذلك برنامج لممرات المشاة والحدائق العامة وتطوير الساحات البلدية. وبرنامج متطور للاحتفالات ظاهره البهجة وباطنه تأصيلها. وعناية بذوي الاحتياجات الخاصة واعتناء بالمرأة تمثل في إنشاء وحدة نسائية خاصة لتعاملاتها بدأت تتسلل نجاحا إلى مدن أخرى. ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل استغرق العناية بالجوانب الثقافية والتراثية من خلال برنامج ثقافي يعنى بالمدينة وتراثها عبر الإصدارات والمناسبات وعبر تطوير مجال للمسرح استطاع أن يؤسسه من جديد جاذبا في ثقة لابتسامة وفكر قطاعات المجتمع المختلفة. ليس هنا المجال لتعداد ما أنجزت الأمانة خلال مرحلة ابن عياف الفارقة ولا للثناء فلم يعتد أينا ذلك، ولكن للتعبير عن بعض امتنان المدينة لما أنجز أو حاول أن ينجز. وأجد أنه اختار أن يغادر موقعه في اعتداد الواثق بعد أن شعر بأنه وصل إلى أفضل ما استطاع وخرج بنجاحات عدة منها تغيير المفهوم عن الأمانة، وتغيير أسلوب العمل في الأمانة، وتغير أسلوب تعامل الأمانة وقبل كل شيء تغيير مستوى الناتج والأثر. وإذ يخرج ابن عياف بنفس الهدوء الذي صاحب أعماله دون صخب، ودون أن ينقش اسمه على شارع أو معلم فإننا نتوقع أن يكون ما بعد خروجه علامة فارقة أخرى. وأحسب أن عليه أن ينقل فكره وتجربته إلى مدن أخرى وإلى الأجيال القادمة من خلال محاضرات في كليات العمارة والتخطيط والإدارة. وربما من خلال مركز يتولى هو إنشاؤه لدراسات تطوير وإدارة المدن، فيكمل جميله بجميل.