إن الاستبداد والفساد والإفساد لا تدر أرباحا وافرة ونفوذا كبيرا وجاها عظيما على المستبد وطغمته ومن لهم صلة بهما مباشرة وغير مباشرة، وإنما يطال الربح المادي أحيانا والمعنوي أحيانا أخرى نخبا محسوبة على المعارضين للنظام الشمولي الفاسد... تجد الرابحة معنويا منها في ظلام الاستبداد سترا لعورتها أو بالأحرى مبررا لعدم تحركها المسهم، عند استمراره وانتظامه، في زعزعة أركان الدكتاتورية، يتمثل في غياب الديمقراطية، إذ المثقف، حسب رأيها، لا يستطيع أن يقوم بوظيفته في مناخ لا يتيح الحرية الفكرية له ويعطيه كامل الصلاحية لاختيار ما يريده من مواقف، ناسية "هذه النخب" أن النهضات والتنويرات والقفزات الحضارية الكبرى نظر لها وقادها وجابها أعداءها وضحى في سبيلها المثقفون، يقول أحد الثوار المنظرين في هذا المضمار: "بدون مشاركة المثقفين يكون النصر في الثورة مستحيلا"، مضيفا: "يجب أن يكون لدينا جيش ثقافي لتوحيد صفوفنا وهزيمة العدو". إن مبرر انعدام الديمقراطية الواهي يدعم بقوة "ويتلقى الدعم من" حالة نفسية تعيشها النخب المذكورة، هي الاغتراب أو الشعور الحاد بعدم القدرة على تقرير المصير والتأثير في مجرى الأحداث الكبرى، أو المشاركة فيها أو وضع القرارات المهمة التي تتناول حياتها ومصيرها، مما يولد حالة من العزلة واللاانتماء تجعلها متنصلة من واقعها، مستسلمة للأمر الواقع، متفرجة حاكمة على مجتمعها بالتخلف العضال، مولية العناية القصوى برزقها ومصلحتها الفردية، بائعة في سبيلهما حبرها وأقلامها وماء وجهها. ولعل مبرر الخوف من عصا الاستبداد والشعور الحاد بالعجز واللاقدرة واللاانتماء قد شكلا نمطا من المثقفين منبتين تمام الانبتات عن الواقع والهوية بفعل عدم الانشغال بأوضاع الوطن والأمة المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية... الانشغال المجذر في التربة الوطنية المحبب للوطن وإيلاء، عكس ذلك، الغرب، وعلى رأسه الدولة مستعمرتنا أمس، عناية قصوى بلغتها وحضارتها وحياتها وتاريخها... وواجدة في النظام القائم بعد خروج المستعمر أكبر داعم ومشجع ومحب لهذا النهج التغريبي والسائرين فيه. كان يمكن لظاهرة الشغف بتقليد الغرب والانبهار بمظاهر حضارته أن ينحسرا شيئا فشيئا مع مغادرة المستعمر البلاد، مثلما وقع في الجزائر التي شوه المحتل أجيالا منها تشويها غير مسبوق. إن هذه النخب التي وصفتها تضم تقريبا كل من رأى الغرب مركز الحضارة وأستاذ البشرية ومعلم السياسة والأحزاب والديمقراطية ودكتور الثورة والاشتراكية... والمؤمنون بهذا في تونس كثر غير متجانسين بل متناقضين أحيانا، إذ منهم من في السلطة "السابقة" ومن يعارضها لنهجها الاقتصادي "لأنه اشتراكي" أو لنهجها الاستبدادي الفاضح لأنه يميل إلى انفتاح ديمقراطي، أو لا يعنيه من أمرها إلا ما يتقاضاه من مصالح.