يعد مفهوم المستبد العادل واحداً من أكثر المفاهيم إثارة للجدل في ثقافتنا السياسية العربية المعاصرة، فعلى رغم أنه ظهر للمرة الأولى مع نهايات القرن ال19 إلا أنه يشكل من وجهة نظر كاتب هذه السطور أحد أهم المفاتيح لفهم أسباب تراجع المشروع السياسي والحضاري العربي وطبيعة التحولات في علاقة النخب السياسية بالجماهير وتفسير العزوف التام أو شبه التام للجماهير العربية عن المشاركة الحقيقية والفاعلة في الحياة السياسية في المرحلة الراهنة. وتجدر الإشارة هنا إلى كتاب مهم للدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة بعنوان «المستبد العادل... الزعامة العربية في القرن العشرين»، والذي جاء فيه أن نشأة الاستبداد السياسي في عالمنا العربي تمركزت حول فرضية دوران التاريخ السياسي العربي والإسلامي حول شخص الزعيم الملهم ذي الطبيعة الكاريزمية الطاغية، ما غيب في شكل كامل دور المؤسسات في الحياة السياسية العربية، مرجعاً تلك الفكرة إلى كتابات بعض الإصلاحيين الذين رأوا أن الشعوب العربية والإسلامية غير قادرة على استيعاب أدوات وآليات الحياة الديموقراطية، كالحريات والبرلمان ودولة المؤسسات، ومن ثم فلا مناص من قيام مستبد عادل بتخليص تلك الشعوب من الاحتلال، ثم يتجه بها إلى الإصلاح فيقيها شر التمزق والانقسام. وهو ما دعا مفكراً بحجم محمد عبده إلى طرح مثل هذا المفهوم في مقال شهير أرسل إلى الجامعة العثمانية في عام 1899 بعنوان «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل»، أشار فيه إلى أن الأخذ بنظام الحياة النيابية من دون تهيئة الجماهير لذلك قد يؤدي إلى انتكاسة خطيرة تتمثل في هيمنة النمط التغريبي على ثقافة الشعوب العربية والإسلامية، ومن ثم فإن من الأفضل البدء بمشروع يستهدف تربية الأمة والارتقاء بها إلى مستوى ممارسة الحياة النيابية في شكل تدريجي وبقيادة زعامة سياسية فردية ومستبدة. ومع بداية النصف الثاني من القرن المنصرم تحول هذا المفهوم إلى واقع سياسي معاش ببزوغ زعامة عبد الناصر الذي اطلع على هذه النظرية وسعى إلى تطبيقها من خلال حرصه على تمركز السلطة في قبضته ليكون له الحق في اتخاذ القرار منفرداً بحسب ما ذكر ثروت عكاشة، أحد أبرز عناصر تنظيم «الضباط الأحرار» في مذكراته. وهكذا فإن مفهوم المستبد العادل استمد شرعيته في عالمنا العربي انطلاقاً من مبررين أساسيين الأول هو التسليم بتخلف الشعوب العربية ومن ثم عدم قدرتها على استيعاب الديموقراطية وآلياتها والثاني هو مجابهة قوى الاستعمار من خلال نمط إصلاحي متدرج يعتمد على الزعامة الفردية ويتخوف في الوقت ذاته من تطبيق الديموقراطية متذرعاً بمخاطرها المتمثلة في هيمنة التيار التغريبي على ثقافة الأمة العربية. إلا أن هناك مأخذين في شأن هذا المفهوم يطفوان على السطح من وجهة نظر كاتب هذه السطور ويتعلقان أساساً بما له من تداعيات أدت إلى تراجع المشروع السياسي والحضاري العربي وإحداث الفجوة الحالية بين النخب السياسية والجماهير، ومن ثم انسحاب الأخيرة من المشهد السياسي العربي الراهن. يكمن الأول في أن التراجع الذي حدث للمشروع السياسي والحضاري العربي جاء كنتيجة مباشرة لإصرار قطاع مؤثر من النخبة السياسية والثقافية على تأكيد الطابع الجدلي للعلاقة بين الاستقلال الوطني والديموقراطية من خلال تبنيه مفهوم المستبد العادل. وهو التناقض الذي بدا جلياً طيلة الخمسينات والستينات إبان فترة حكم الرئيس عبد الناصر حيث جرى الترويج لنهجه بوصفه زعيماً للتحرر الوطني، وفي المقابل تم تقويض الحياة الحزبية والنيابية وقمع الحريات من قبل النظام الناصري والنظم العربية التي تبنت المنهاج نفسه، ما دعا بعض الأصوات المستقلة داخل النخبة المثقفة لوصف ما حدث بأنه استبدال للاستعمار الخارجي باستعمار وطني. ولعل الأمر اللافت هنا هو أن العلاقة بين الديموقراطية والاستقلال الوطني هي علاقة تكامل لا صراع، ففساد الإدارة الناجم عن الممارسات القمعية والديكتاتورية للنظام الناصري كان سبباً مباشراً في هزيمة حزيران (يونيو) 1967 وما ترتب عليها من احتلال إسرائيلي للأراضي العربية، إضافة إلى أن النظام المستبد الذي يسوق فكرة جهل الجماهير ليضفي شرعية زائفة على وجوده يمثل مبرراً تاريخياً وآنياً للاستعمار. فالتسليم بالاستبداد كوسيلة مشروعة لحكم الأمم المتأخرة كان أحد المبادئ التي طرحها الفيلسوف الانكليزي الشهير جون ستيوارت مل في كتابه «عن الحرية»، ما وفر الذريعة الملائمة للقوى الامبريالية في حكم المستعمرات تحت شعار رسالة الرجل الأبيض في نشر الحضارة، وهو ما تحول في الفترة الراهنة في ظل هيمنة الولاياتالمتحدة الأميركية على النظام العالمي الجديد إلى دعوة صريحة لاستخدام القوة العسكرية من قبل الدول الديموقراطية لخلع النظم المستبدة وفرض الديموقراطية، وهو ما حدث مع صدام حسين في العراق. هذا بالنسبة إلى المأخذ الأول. أما المأخذ الثاني فيتعلق بتغلغل النمط الفوقي النخبوي في ثقافتنا السياسية العربية والذي يروم عزل الجماهير عن المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية متهماً إياها بالجهل ما يضفي مزيداً من الشرعية على ممارسة الوصاية عليها من قبل «الزعيم الملهم» أو «كبير العائلة»، كما يطلق عادة على بعض القيادات العربية، ما قوَض الطابع الديموقراطي للنظم السياسية العربية وكرس الطابع البطريركي الأبوي للزعامات العربية مولداً في الوعي الجمعي للجماهير العربية إحساساً راسخاً بالشك الراديكالي، أي الشك في قدرتها على الاختيار الصحيح عبر انتخابات حرة ونزيهة، إذا ما أتيحت لها الفرصة لاختيار قياداتها، بل والشك أساساً في إمكانية إفراز المجتمعات العربية لكوادر سياسية جديدة تصلح للقيادة ما يعني أن التخوف القديم من فرض النخب الليبرالية للديموقراطية الغربية في شكل قسري والذي ساد مع نهاية القرن التاسع عشر ممهداً الأرضية لظهور مفهوم المستبد العادل حل محله تخوف جديد مع بدايات القرن الواحد والعشرين متمثلاً في استمرار حال الجمود الراهنة بفعل هيمنة النمط الاستبدادي على النظام السياسي العربي، ما يعني إجمالاً أننا في حاجة إلى صيغة فكرية وسياسية جديدة تحفظ الاتزان بين الاستقلال الوطني والديموقراطية على مستوى التنظير الفكري وبين النخبة والجماهير على صعيد الممارسة السياسية ما يمكننا من الانتقال من هذا النمط الفوقي النخبوي إلى النمط الجماهيري التداولي من دون إخلال باستقلالنا السياسي وهويتنا العربية. * كاتب مصري.