لم تعد صحافة اليوم هي صحافة الستينيات أو السبعينيات، ولكنها خطت خطوات واسعة وصلت إلى النُخاع من المصداقية والشفافية، ولم تكن كما يقولون (كلام جرايد)، فصحافة اليوم هي خط الدفاع الأول فلها عمق وأثر وصدى واسع الانتشار، أصبحت محل اهتمام العالم فوسائل الإعلام المختلفة يهابها الكثير فهي السلطة الرابعة وعين الحقيقة وميزان الثقافة وتقييم المعلومة وصوتُ المجتمع ووسيلة النقد الهادف البنَّاء لرُقي المجتمعات، وهي شُورى بين الناس جميعاً وتبادل الآراء والخبرات وتقديم الحلول والمقترحات، رأينا اليوم في عالمنا العربي كيف يُقتل المُصورون والمذيعون حتى لا تصل الأخبار وعين الحقائق إلى الجمهور، فأصبحت الكلمة اليوم لا تقتصر على بلدٍ دون آخر، ولا مجموعة دون أخرى، ولكنها أصبحت تنتقل مع انتقال الهواء إلى كل أرجاء المعمورة، فالكلمة لها ثقل وثمن. إنني أكتب هذه المقالة بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، وما يُقال عنها يندرج على كافة وسائل الإعلام المختلفة، فهي تعتبر الواجهة الناصعة للكشف عن ثقافة أي مجتمع يحلُ به الإنسان. فإذا أردنا أن نعرف المستوى الثقافي والحضاري لأي مجتمعٍ، لابد لنا أن نطلع على وسائل الإعلام المختلفة الخاصة به، ومدى إمكانياتها على معالجة أوضاع ذلك المجتمع. لاشك أن الصحافة هي نتاج ثقافة، لذا فإنك تتذوق حلاوتها وطراوتها ونكهتها بشيءٍ من الاختلاف في أي مجتمع تحلُ به، وكنت دائماً إذا نزلت ببلدةٍ ما، كان أولَّ طلباتي في ذلك الفندق تتمثل في إحضار الصحيفة، أبدأ بقراءتها حتى أعرف عمق تفكير ذلك المجتمع أو بساطته ومدى تطور فكره. هناك علاقة كبيرة بين ما يُسمَّى بالإعلام والثقافة وأعتبرها وحدة متكاملة، فالصحافة تكشف ديمقراطية البلاد، أم أنها غير ذلك، مسالمة أو غير مسالمة، مستنيرة أو مقيَّدة، تقوم على التسامح أم التشدد، مادية أم روحية، متزمتة أم متراخية. لاشك أنها مرآة تنعكس عليها صورة هذه المجتمعات، فالثقافة والصحافة تشتركان بأنهما من صنع الإنسان للإنسان وتختلف من مجتمع لآخر ومن زمانٍ لزمان؛ لذا فهي متغيرة ومتطورة رغم أنها تُثير وتتأثر بالمجتمع، لها أهدافٌ منها التواصل والتقدير الاجتماعي ووحدة الهدف والمصير عن طريق المشاركات الفكرية وتأصيل القيم والمفاهيم والاتجاهات وهُنا يلعب الانتماء والحاجة إلى التقدير والنجاح أدواراً هامة في تقوية أواصر التفاعل بين الكاتب والقارئ.. لم يعد القارئ هو ذلك الإنسان البسيط الذي يأخذ المعلومة كما هي دون تحليل، فتمرير المعلومة اليوم يخضع لتميزٌ فكري كما رأينا في ساحات الاحتجاجات، فأصبح الكثير من الناس يلومون تقيد بعض وسائل الإعلام عن نشر الحقائق أو إحجامها عنهم. فلم تعد وسائل الإعلام المختلفة هي وسائل إقدام أو إحجام فالكل يتسابق منها على نقل الخبر لما في ذلك من تميز لوسيلة دون أخرى، ساعد في ذلك ثورة الاتصالات والتقدم التكنولوجي. أقول أشعر دائماً وأقول لنفسي إذا كانت الصحافة تعمل دائماً على تغذية الفكر بين قرائها فإنها تعمل أيضاً على التفاعل الجيِّد بين صحيفة متميزة وأخرى. لا شك أن وسائل الإعلام تعمل في تماسٍ مباشر مع قضايا وآراء الناس والشارع وما يُعكر صفوهم أو ما يحقق أمنهم، فحرية الصحافة تختلف من بلد لآخر ومن قارة لأخرى ففي بعض الدول تمر الصحافة بعدد من القيود والخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال، لكنها بنسب مختلفة.. فكلما كانت الصحافة تتمتع بمساحة من الحرية الفكرية كانت بمثابة خارطة طريق آمنة للمواطن لينهل من رسالتها ويعي دوره ويُؤدي واجبه تجاه بلاده ومجتمعه، والكاتب السعودي أصبح اليوم يعي رسالته ويقدِّرُ دوره في الارتقاء الفكري والسلوكي لكافة مستويات المجتمع، كما تميَّز أيضاً بالمصداقية والشفافية والرأي السديد والانتماء والوطنية، فلم تعد الصحافة اليوم هي صحافة السهل الممتنع!، فقيام تلك المؤسسات بواجباتها الوطنية في النقد الهادف ليس معناه التجني على فئة دون أخرى أو أشخاص بعينهم ولكنها تعني الارتقاء في الأداء والمشاركة في الرأي والرأي الآخر والوصول إلى مفهومٍ ورسالة متفقٌ عليها، فشرف المهنة وميثاقها يقف أمام كل متجنٍ أو كل ناقدٍ غير هادف، فالبلد مشترك والرأي متبادل، وكما يقولون (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) فالتقييم صفة مشتركة لازمة للفكر للتمييز بين الغثِّ والثمين وما يحقق المصلحة ولا ننسى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما معناه: (إن أخطأت فقوموني)، فمهما كانت الإنسان سماته وصفاته ومكانته لابد أن يخضع للتقييم الصادق (فالصحافة ميزان العدالة)، وهي تعكس وجه الاتفاق والاختلاف والرضا عن أي مادة مطروحة للنقاش! نطالب اليوم المؤسسات ووسائل الإعلام المختلفة في أي بلدٍ من تخفيف القيود على الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية حتى لا يلجأ الكثير من أصحاب القلم والإبداع والرأي إلى الاختفاء من الساحة الفكرية المفتوحة إلى ساحات التواصل الاجتماعي المغلقة، وحتى لا يلجأ الكثير من القراء للبحث عن موادٍ تشبع غرورهم في مواقع غير مسموحة ويتعرضون لأفكار ومفاهيم واتجاهات خاطئة.. فمصادرة الرأي أو تقييده لا تأتي بنتائج محمودة، فاليوم أصبح الشاب يبحث عن كل ممنوعٍ لأنه مرغوب في نظره. وما يمنع اليوم هنا قد يظهر هناك ونحن كتربويين نحاول جاهدين أن نغرس في أبنائنا حرية الرأي والتعبير والقراءة والإطلاع والنقد الهادف حتى ينشأ جيلاً قادراً على النقاش والمُحاورة والإبداع والسمو بأفكاره وتصحيح اتجاهاته مؤمناً بقضاياه مدافعاً عن حقوقه وانتمائه.