فعلاً البنت زي الولد مش كمالة عدد، خلقني الله سبحانه وتعالى مفطوراً بحب البنات والعطف عليهن؛ لأنهن كما يقولون مكسورات الجناح خاصةً في مجتمعنا الذكوري. رغم أنني تربوي وشديدٌ في عملي كمعلم، ثم مدير في تعليم البنات. إلا أن الله وضع في قلبي الرحمة والعطف تجاه البنات، شعرتُ بذلك أثناء تربيتي لبناتي، حيث كُنتُ أميل لهن أكثر من الأولاد بينما زوجتي تميل للأولاد. حظيت بناتي من شخصي بالغالي والثمين. كنت أذهب معهن إلى الروضة لأحضرهن، فكن يحكين لي كل ما دار في الروضة وحدث معهن في يومهن وماذا قالت لهن الأستاذة، ومن هنَّ صديقاتهن.. يُطلعنني على دفاترهن وماذا سجلت الأستاذة لهن من ملاحظات. عندما كبرن ازدادت علاقتهن بشخصي، وبالتالي كثُرت متطلباتهن المالية أكثر من الأولاد، رغم مرتبهن الشهري، فهن يطلبن أكثر، معللات ذلك بشراء الهدايا لصديقاتهن وأحياناً يأخذن من جيبي دون علمي حتى أستيقظ ثم يخبرنني، كُنَّ ينزعجن كثيراً عندما أوجههنَّ أو أنتقدهنَّ بصوت عالٍ، ويقلن لي: (يا بابا شكلك مش حلو عندما تصيح أو تزعل)، لذا كان زواج البنت عندي بمثابة كارثة لأنني بصراحة بيتوتي وبنوتي، أقضي معظم وقتي في البيت مع الأهل والبنات، فلمَّا زوجت ابنتي الغالية ريناد شعرت باكتئاب وحُزن لأنها خرجت من بيتي لبيت زوجها، ففي يوم الزواج وبعد انتهائه باركتُ زواجها ثم رجعت إلى البيت تصحبني والدتها التي كانت لا تكف عن البكاء بصوتها طوال الطريق حتى وصلنا إلى بيتنا.. دخلنا البيت سوياً وصعدت أمها إلى غرفتها تبكي، بينما كُنت محتقناً ومُكتئباً ولكن ملتزم الحياد أمام الكل والجميع، لكنني سرعان ما بكيت في غرفة الجلوس لوحدي وكان البيت هادئاً .. (هس) لا صوت ولا حركة رغم أن ريناد كانت تعمل بالبيت بهرجة وحركة وصولجة وغناء في كل ركن من أركان البيت، لذلك فعند دخولي وخروجي كُنت أستمع لصوتها تدندن أحياناً وتغني أحياناً، ولكنني تلك الليلة وجدت تلك الغرفة مُغلقة ومظلمة، وخيَّم عليَّ الحُزن والاكتئاب، كُنت أداري مشاعري وأحاول أن أصالح نفسي وأكتم حزني وألمي عن والدتها وإخوتها، ولكنني كُنت أعيش أبحث عن شيء مفقود بيني وبين نفسي، وفي اليوم التالي، قالت زوجتي البيت ليس حُلواً بدون ريناد. كانت هذه الكلمات تخترق مشاعري كالدبابيس قلتُ لزوجتي حينها (تاني مرة ما عاد أزوج بنت من بناتي) نظرت إليَّ مكتئبة ثم (شمقت وبرقت) وقالت في حِدَّة صوتٍ عالٍ والله سمعتك! قلت كيف؟ قالت: إنته كيف أخذتني من أهلي؟ هل عرفت اليوم كيف أن الفلفل يحرق؟ كيف تعمر البيوت؟. ثم أردفت قائلة. انت سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). هذا الحديث سمعته وكأني حديث عهدٍ به رغم أنني سمعته أكثر من مرة وأكثر من مناسبة وأحفظه ولكنه غاب عني حينها.. الكثير من الأقارب والأرحام اتصلوا بي يهنئونني بزواج ريناد. قلت لزوجتي الكل يبارك ولا يعلم ماذا يدور في خلجاتي. في حقيقة الأمر أقولها بكل صراحة زواج البنت غير الولد، فقد شعرتُ يومها: (كأني خرقت عيني بيدي) فكنت كلما دخلت أو خرجت من غرفة نومي لأتوضأ لصلاة الصبح أجد غرفتها مظلمة أمامي. تذكرتُ حينها قول الشاعر: أنادي فلا ألقى مجيباً سوى الصدى فأحسبُ أن الحيَّ ليس بآهلٍ ويقول آخر: فذا حظي من الدنيا فدعيني لا أزد غمَّا هذه سنة الحياة وسنة الله في خلقه، يموت أناس ويولد آخرون ويُسافر قوم ويتزوج لاحقون، حقيقة هذا قدر الله على خلقه، لكي تعمر الأرض ويحفظ النسل والنوع، فالتراحم بين الخلق بالتزاوج والتقارب، وقد فارق الناس الأحبة مثلنا وأعيا دواء الموت كل طبيب، إن الأدوار متبادلة في هذه الحياة الدنيا، فأبو العريس يصبح حينها أباً للعروسة، وأبو العروسة يصبح أباً للعريس، ثم جداً للأبناء وتهون عليه الدُنيا بما فيها عندما يرى ابنته مرتاحة في مملكتها مستقلة في بيتها، تأمر وتنهى، وتنجب وتربي. قلت لزوجتي حينها: (لكن كل فتاة بأبيها معجة)، وكانت زوجتي سريعة البديهة في الرد دائماً، فردت عليَّ (لكن أيضاً كل فتاة بزوجها مغرمة)، فأنت لا تستطيع إسعادها ولا تستطيع إشباعها عاطفياً حيث انتهى دور أبيها وبدأ دور زوجها وحياتها واستقلالها. فاللهم كثِّر الأفراح والليالي الملاح.