نقلت رشا ما دار بين والديها من حديث بعد أن ألغيا رحلتهما الثقافية إلى كل من البتراء في الأردن وتدمر في سوريا وبعلبك في لبنان نتيجة تطور الأحداث في لبنان خلال الأيام الأخيرة والخوف من اجتياح إسرائيلي للجنوب اللبناني وسهل البقاع . تقول أنها سمعت والدتها تردد الشطر الأول من بيت الشعر: "لكل داء دواء يستطب به" وتكمله بقولها: إلا داء الطائفية والمذهبية والتعصب الأعمى للأنا على حساب المجتمع الذي استشرى في لبنان وأصاب شعبه بعمى الألوان والفرقة والتشرذم، جاحدا بما أكرمه الله من ماء وخضرة ووجه حسن يحسده عليها الكثير من شعوب المنطقة، وقد كان إلى منتصف القرن العشرين الركن الآمن في العالم العربي الذي ولدت دوله على يد سايكس وبيكو وهما يتقاسمان تركة السلطنة العثمانية، وأن والدتها عادت لتقص حديث والديها عن ترددهما على بيروت -وهما في زمان الصبا - وقصدهما مقهى الحاج داود، ليشاهدا عن قرب ويستمعا بوضوح للعديد من رجالات الأدب والفكر والسياسة وهم يدلون بدلوهم حول أحداث الحاضر وتوقعات المستقبل،ومعظمهم من مواطني الدول المجاورة الذين سلموا بجلدهم من جور المستعمر الذي كان يتحكم بالبلاد والعباد ، ويصفان موقع المقهى المميز، وأنه أسس عام 1900 على مرتفع فوق ماء البحر بحيث يستطيع الجالس أن يرى سطح الماء من خلال الفواصل بين ألواح الخشب، يقصده العديد من الدمشقيين والمقدسيين بصحبة أقاربهم البيروتيين في عطل نهايات الأسبوع والأعياد، فبين عائلات بيروت ودمشق والقدس صلات وطيدة لا تضعفها أبدا بطاقات الأحوال المدنية (الهويات الشخصية) وجوازات السفر المختلفة لونا وشعارا، فهذه الوثائق ما هي إلا لغرض الانتقال بين مدينة وأخرى، إلى أن تمكن الصهاينة من فلسطين بعد أن منحتهم الأممالمتحدة دولة على أرض لا حق لهم فيها، وشنهم حروبا غير متكافئة على الفلسطينيين والعرب بعون ومدد من القوى الاستعمارية الكبرى، فكان ما كان، وغرس الصهاينة وأعوانهم بذور الشقاق والانقسام في النموذج اللبناني للتعايش والتوافق التي نبتت بسرعة على السطح كسرعة تطور أحداث الحرب الباردة التي قامت بين القوتين العظمتين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدةالأمريكية، لتشكل بين فروعها وأغصانها العشوائية ظلا يتفيأ تحته تجار الطائفية والمذهبية وهم يعرضون ذمتهم للطامعين في خيرات المشرق العربي. وتنقل رشا مداخلة والدها بقوله أنه في الحالة اللبنانية علينا البحث عن المستفيد من هذه الفرقة وتبادل الاتهامات، فبالتأكيد أن اللبنانيين الشرفاء، شأنهم شأن القيادات الوطنية في كل بلدان العالم، حريصون على لبنان متماسك وقوي تميزه فسيفساء التعدد بألوانها الجذابة، وأن ما من قيادة طائفية أو مذهبية في بلد كلبنان بوسعها التفرد بالقرار السياسي والأمني، ولبنان مع الدول العربية المجاورة له ينتمون إلى البيت العربي الأصيل الذي تعددت بواباته ولكل بوابة علمها المميز، وكانت البوابة اللبنانية بعلمها الذي تتوسطه شجرة الأرز المعمرة والراسخة جذورها في أعماق الجبال والهضاب والوديان هي نافذة العالم العربي على الغرب والرئة الاقتصادية والثقافية التي تحفظ لدول الجوار صحتهم وعافيتهم، ولهذا ليس غريبا ما شهدناه من اهتمام بالشأن اللبناني أملا في نزع فتيل الفتنة ، وهذا الاهتمام يذكرني بالحديث النبوي الذي يقول: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي، فلبنان هو بمثابة القلب من جسد العالم العربي، وسلامته تهم كل العرب الشرفاء الذين يعتزون بتراثهم ورسالتهم ، وتختم رشا المقابلة مترنمة بأبيات للشاعر الأندلسي ابن النحوي منها: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج، وظلام الليل له سرج حتى يغشاه أبو السرج. وتهمس في أذني بأن والدتها تردد هذين البيتين كلما أَلَمً بها هَمٌ أو كَدَرْ. مدريد