قضية "أننا أمة لا تقرأ" قضية قديمة جديدة في آن معاً،بل لعلي واحد من كثيرين جداً، ممن صرنا نقرأ تحقيقات صحفية كثيرة، تنتشر بين فترة وأخرى، وكلها تبحث أو تتباكى على هذا الواقع المرير الذي نعيشه منذ آماد بعيدة، ولازلنا نجتره سنين وراء سنين، ولعل من اللافت أن إخواننا الصحفيين، وهم يتناولون هذه القضية في كل مرة، يحاول بعضهم تحريك هذه المسألة من جانب من جوانبها، ثم يأتي البعض الآخر ليحرك جانباً آخر، ويقوم الفريق الثالث ب "غمر" القضية من مكان جديد، فيما "الجثة" واحدة أقصد القضية، فهذا يتناولها تحت عنوان "لماذا شبابنا لايقرأ؟" !! وكأن الشباب فقط لا يقرأون، بينما الأكبر سناً منهم قد "كسروا الدنيا" ثم يأتي تناول صحفي جديد تحت عنوان "ما أسباب عزوف النساء عن القراءة؟" .. ومرة جديدة نجد من ينطلق من زاوية "لماذا المعلم لا يقرأ؟" .. وهكذا "لف ودوران" حول ذات القضية. ولعل من أفضل ما أعجبني من حلول لهذه الاشكالية، ماقاله الناقد السعودي الشهير الدكتور صالح الزهراني في ملحق الاربعاء 27شوال 1431ه وفي عبارة مضغوطة قال فيها: " لن يتحقق التحفيز على القراءة إلا بنظام تعليمي يتجاوز نظام التلقين الحالي" .. وذهب آخرون إلى طرح فرضيات ومعها حلول من وجهة نظر شخصية، وكلها تقرر أن القضيية تحولت إلى ظاهرة، وأن أول ترجمة لهذه الحالة المزرية هي المزيد من الجهل، والمزيد من الجاهلين، وبالمناسبة فإن الجهل ليس أن أحدنا لا يقرأ ولا يكتب كما يتبادر إلى الذهن، بل هو كما سمعت ذلك من الشيخ المفكر المرحوم محمد متولي الشعراوي، أنه الذي يجهل الحق في المعرفة، أما الذي لا يقرأ ولا يكتب فيسمى ب "الأُميّ". وأظن أن القراءة هي حاجة، وطالما أن العربي اليوم وأمس وربما غداً لا يحتاج إلى القراءة ولا إلى الاطلاع والثقافة والوعي، ويمكنه أن يعيش حياته بدونها، فإنه لن يفكر لحظة في أن يفتح صفحات كتاب هنا، وآخر هناك، ولن يلهث وراء جديد المكتبات، لأن تركيبة المجتمع عندنا، وآلياته ومتطلباته، تقبل الذي يقرأ وتقبل المثقف مثلما تقبل الجاهل وعديم الثقافة، وجميعهم في سلة واحدة أمام المجتمع، وانظروا إن شئتم إلى أي مجلس عام وسترون أن العيون والقلوب والحفاوة تتساوى للطرفين معاً، بل قد ترتفع أسهم رجل جاهل لكنه غني، أو صاحب مكانة اجتماعية، وسيتم قبول هذا وذاك في مسابقات الوظائف دون اشتراط محور الثقافة.. إذن ماقيمة القراءة؟. ذات مرة سألت خريجاً من الثانوية العامة رأيته يبيع الحبحب في دكان بمنطقة جنوبية عن خط الاستواء، وأقسم أنه لا يعرفه ثم اطلق ضحكة مجلجلة شاركته فيها بأسى ثم ابتعت منه بطيخة على السكين "!!" .. ولك أن تراقب ليس خريج الثانوية، بل خريج الجامعة عندنا، فمن من هؤلاء يستطيع أن يتقدم إماماً لصف واحد بالصلاة ويؤدي المهمة بثقة وإتقان، ومن من هؤلاء يمكن أن يشارك في حوار مجلس صغير بأفكار مرتبة وحوار جيد، فضلاً عن عجزه عن قيادة حلقة حوار؟ العالم المتقدم في الشرق والغرب عرفوا القراءة واحتاجوها كضرورة حتمية لحياتهم، ووضعوا كل الآليات المجتمعية لبناء أجيال قارئة واعية مثقفة، فقفزوا إلى الصدارة وصاروا يصدرون لنا انتاج معاملهم ومصانعهم، ومنها آلات اللهو والتسلية واللعب، التي تلقفناها وقدمناها لشبابنا، لأننا شعوب مستهلكة وسنظل كذلك إلى سنوات كثيرة قادمة، صحيح أن أولئك القوم يتسلون مثلنا، ولكن في حزمة صغيرة منهم وفي أوقات محددة وبنظام دقيق صارم، أما نحن فقد رضينا أن نكون تحت رحمة رياحهم، وفي قبضة حياتنا التي كيفناها بأسلوب "حسب التساهيل".