هذه رسالة جاءت من الصديق ياسر الباز، المهاجر إلى كندا، فاستأذنته بنشرها. يقول فيها: منذُ ولِدتُ لم أعرفْ لهُ اسماً إلا المسجدَ الجامعَ فكلُ أهلِ القريةِ يختلفونَ إليهِ ويبدَأونَ يومَهم فيه. فبعدَ صلاةِ الفجرِ ينطلقُ الجميعُ إلى حقولِهم ساعينَ إلى أرزاقِهم ومعايشِهم، وتراهم يُنْهُونَ يومَهم فيهِ بعدَ صلاةِ العشاءِ. بينما يَتَولَى الصلاةَ في أوقاتِه الباقيةِ من قَرُبَ منزلُه أو عملُه، أو كَبُرَ سنُّهُ عن العملِ لكنْ لمْ يَكْبُرْ عنْ عِمارةِ بيتِ الله. كانتْ الحياةُ هادئةً رتيبة لا تغيير فيها، إلى أن جاءَنا إمامٌ مِنْ أهلِ القريةِ، سبق له أن غادرها ليتلقَّى العلمَ عن أهلِه، وها هو قد عادَ إلينا عالماً نافعاً. وأخذ يجلسُ كلَّ يومٍ بعدَ العِشاءِ يعلمُنا أمورَ دينِنا، وكثيراً ما فتحنا أفواهَنا تعجباً من علمِه أو من جهلِنا. وذاتَ يومٍ وهو يعلمُنا فقهَ الصلاةِ، وكيف كان النبيُ (صلى الله عليه وسلم) يُسَوِّي بين الصفوفِ، قال شابٌ إنَّه لمَّا ذَهبَ إلى قريةٍ مجاورةٍ وجدَهُم قدْ وضعوا خطوطاً على الأرضِ لتستويَ صفوفُ الصلاةِ. فاستشارَ الإمام المصلينَ في وضع خطوط مثلها، فوافقَ أكثرهم واعترضَ بعضُهم، وهم الذين قالوا عنها بدعةٌ لم يردْ بها فعلٌ من السلفِ، ولم أكنْ أعرفْ ما تعني هذهِ الكلمةُ! فقيل لي همُ الصحابةُ والتابعون، فخشيتُ على نفسي من مخالفتِهم، ثم قلت أتبعُ الإمامَ فهو أعلمُنا. وأمرَ الإمامُ بوضعِ هذهِ الخطوطِ، فخرجَ المعترضون, وذهبوا إلى طرفِ القريةِ وأنشأوا مسجداً جديداً سمَّوه مسجدَ التابعين. وانتظمَ الأمرُ في مسجدِنا الجامعِ ووقفَ المصلون خلفَ الخطِ سعداءَ بطاعةِ اللهِ بتسوية الصفوف، حتَّى جاءَ أحدُنا وقالَ إنَّه في زيارةٍ لقريةٍ أخرى وجدَهم يقفونَ أمَامَ الخطِ – أي يَضعونَ أعقابَهم عليه – لأنَّ هذا يساعدُ على استواءِ الصفِ، فأصحابُ الأجسامِ الصغيرةِ يفسدونَ الاستواءَ. ومرة أخرى انقسمَ الناسُ! فريقٌ، وهم أكثر من النصف، يرى أنْ نبقى خلفَ الخطِ! وفريقٌ يريدُ الوقوفُ أمامَ الخطِ! وبالتالي قرَّرَ الفريقُ الثاني الذهابَ إلى الطرفِ الآخرِ منْ قريتِنا وبناءَ مسجدٍ جديدٍ سمَّوهُ مسجدَ المجددين! ومرتِ الأيامُ وكلُ مسجدٍ يكتسبُ أنصاراً لخَطِه وخُطَطِهِ. ثم جاءَ واحدٌ منَّا واقترحَ أنْ نضعَ خَطَّينِ يقفُ المصلون بينهما! لنجمع بين الرأيين, ونوحد على الأقلِ مسجدين. فانقسمنا كالعادةِ إلى فريقين، والنتيجة معروفة، وهي قيامَ الفريق المعارض بالانفصال وبناء مسجد في طرفٍ آخرٍ منْ قريتِنا – و ما أكثرَ أطرافها – وسمَّوهُ مسجدَ الوَسَط. ولمَّا كنتُ إنساناً جاهلاً, لستُ عالماً ولا فاهماً, كنت كُلَّما دخلَ وقتُ صلاةٍ وأنا قريبٌ من أي مسجدٍ دخلتُه وصلَّيتُ مع جماعتِهِ. وهكذا أصلي مرةً أمامَ الخطِ ومرةً خلفَه ومرةً بينَ الخطينِ ومرةً بلا خطِ. لقدْ كانَ كلُ هَمِّي أنْ أؤدي صلاتي في خشوع، وأستوي وأستقيمَ في الصفِ كي يَرحمَني ربِّي. كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز