المصارعة التي حدثت بين مصليين في مسجد حائل يوم الجمعة الماضية، هي عنوان جيد لما وصل إليه البعض من تفريغ محتوى العبادات من جوهرها الحقيقي والمواصلة على أداء الشعائر كشكليات لا تسمن ولا تغني من جوع. فالمصليان المتصارعان قفزا على (من مس الحصى فقد لغى) إلى العراك الحقيقي الذي أوصلهما الى أبواب الشرطة، وكأنهما قادمان من الشارع ولم يكونا في عبادة تستوجب الخشوع منذ السير إلى المسجد إلى أن تخرج منه. وكثير منا يمارس العبادات منزوعة الدسم، تجد الشخص منا يركض ويزاحم على الصف الأول، بينما أوقف سيارته (قبل الدخول إلى المسجد) خلف ثلاث سيارات هو غير مهتم بما أحدثه من ضرر على من وقف خلفهم، والمهم أن يلحق بالصلاة. وربما يكبر تكبيرة الإحرام وقد أغمط خادمته أو سائقه وقسا عليهما، فليس مهما اللين مع الخدم أو إعطاؤهم حقوقهم، فهذا أمر ثانوي ليس له علاقة بالصلاة. وربما يركع وقد نم في كل من يعرف ولا يعرف، أو انتهك حجب المحصنات الغافلات، فليس مهما الكلام ما دام يركع ويسجد. وربما يسجد وقد أكل حق هذا وشتم هذا وأوغر صدر هذا وسرق من هذا ودلس على هذا، وكلها أمور ليس لها علاقة بالصلاة، فالصلاة تستوجب الخشوع في المسجد وحسب. وربما يرفع رأسه من سجوده ويفكر كيف تغاضى عن زوجته التي فكرته بالنفقة على أولاده، ويكمل استقامة ظهره بالقفز إلى التفكير بكيفية الانتقام من زوجته ومديره الذي خصم عليه، أو يشحذ همته ليعرف من الذي يمكن رشوته في تمرير بضاعة فاسدة للبلد، وهي قضية ليست لها علاقة بالصلاة كونها ذنبا سوف يعالج توبته منفردا. وربما ينصت للإمام وهو يتلو (وأما السائل فلا تنهر) فلا يتذكر ذلك المسكين الذي مد له يده فزجره ولعنه، فالصلاة ليس لها علاقة بما يحدث لنا في الشارع أو في البيت أو في العمل. كثير من المصلين يعزلون هذه العبادة عن ما يحدث لهم في يومهم، ولذلك فالمصارعة التي حدثت ليست وحيدة، هي وحيدة لأنها نشرت على الصحف، بينما يوميا ومع كل فرض صلاة تحدث مشاجرات بين المصلين وفي أحيان بين الإمام والمأمومين.. فهذا لا يحب الإمام فيطير إلى الرياض ليشكوه (هكذا يتكبد مصاريف وسفرا وترحالا لأن الإمام لا يعجبه، وربما يجتمع خمسة أو ستة لشكوى الإمام). وفي كل مكان ثمة مشاجرات تقوم بين الإمام والمؤذن وأمام المصلين.. وأحيانا تقام الصلاة وما زال اثنان يتشاجران بصوت مرتفع.. فهذا ليس مهما، فهما لم يدخلا في الصلاة بعد! وفي أحيان بين المصلين والداعية أو بين أحد المصلين وأحد المتسولين.. في كل مكان شجار يقوم أو مشروع عراك يخمده البقية من المصلين! ولو رصدت هذه الحوادث يوميا ونشرت لاكتشفنا أن الصلاة عند البعض هي رياضة بدنية ليس إلا، فليس للمصلي من خشوعها شيء يذكر، وليس له من معاني نهيها شيء يذكر، ويغيب تماما أن الله يعلم ما نصنع لأن القرآن أيضا عبادة سمعية وشفوية تعبر آياته الأذن من غير أن توقر في الصدور أو تتدبرها العقول.. فالنص القرآني لا يحتاج للعقل وإنما للحفظ!! كل هذا التفريغ لجوهر العبادات يحدث فيها منفردة أو مجتمعة، ونقول إننا ملتزمون بما شرع الله من أوامر ونواهٍ، في حين أن العبادة التي نقف فيها خمس مرات في اليوم لم تنهنا عن شيء يذكر، ثم نقول نتحمس ونرفع أكفنا بالدعوات: اللهم العن الكفار المنحلين الخنازير الذين حرفوا ما أنزلت على أنبيائك! ويفوت على هؤلاء أن التحريف ليس مقتصرا على تحريف النص بل أشد منه تحريف السلوك الذي جاءت العبادات ناهية عنه. ويوميا نقول قال سبحانه وتعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى».. ويوميا نقف خمس مرات ونفحش ونبغي ألف مرة في اليوم.. فأي تحريف هذا الذي نعيشه!.