✒إن لم تتجرّعْ من كأسِ الفقدِ رشفةً فلا تخضْ بلسانك في غيبَةِ الحزن ! عشرُ سنواتٍ مضتْ، في كل يومٍ فيها أضعُ يدي على قلبي وأحدّثُ نفسي وأحادثهُ: كيف لكَ بالبقاء عشرًا رغم عُمق الانطفاء؟! أنَّىٰ لك هذا الثبات رغم زلزلة المُصاب الذي أتىٰ على كل شعورٍ فيك،فتعطلّتْ لفترةٍ طويلة كل طُرق العبور إليك! يتيمٌ أنت يا قلبي وغريبةٌ أنا ! داهمك اليتمُ حتى أصبحتَ خاليًا من كل شيء! خاليًا من أمي، وصوت أمي، وحضن أمي، ودعوات أمي، ورائحة أمي. يتيمٌ أنت يا قلبي فكيف يشرق صباحك بلا وجه أمي؟! مساؤك رمادي، وغروبه حزينٌ بدون ضحكات أمي! فما أشبه الصباح بالمساء ! علموني أن الأوطان لا تموت مادام لها آبناء، فخُيّل لي أنك لن تموتي قبلي أو بدوني، لكن في لحظةٍ كأنها عام رحلتِ يا أمي ! لِمَ لمْ تخبريني يا أمي أن الموت يتخطّفُ الأرواح ولكن الأجساد تبقى! كفنوا روحي يا أمي قبل أن يكفونكِ، رحلتِ ولم تشبع منكِ عيناي وقلبي وروحي وكل مافيَّ! في أولِّ تراويحٍ من كل عام يا أمي تسابقُ عيناي خُطىٰ المصلين بالبُكاء ! إني أفتقدك، وأفتقد رمضان معك ! وفي كل عيدٍ أفتحُ لك في قلبي مجلسَ عزاء وهم لا يعلمون، فلا يشبهُ الموت سوى العيدُ بلا أم ! أتذكرُ يا أمي بكاءكِ لأمك وأنتِ تسمعين دعاء إمام الحرم لموتى المسلمين وأتعجّبُ ! وأنا الآن أتوجّع، وأبكيك وأبكي كل الذكريات معك ! أتذكرُ يا أمي آخرَ عهدٍ لي معك بالحرم، ويوم عرفة، وصلاة المغرب، فما زرتُ الحرم إلا وتحسّستُ كل مكان مررتِ به، وما حلّ يوم عرفة وآذان المغربِ إلا وقد رفعتُ بين السماء والأرض كفيَّ وقد تبللت بدمع فقدكِ كالحناء. كلما تلوتُ يا أمي آية {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} اختنقُ وجعًا كيف لروحكِ أن تحتمل ألم الاحتضار ! واسمع {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} فأتنفس بالطمأنينة، أن رحمة الله أوسع من حزني، رحلتِ يا أمي بعد صيام، رحلتِ بهدوء، ضمك القبرُ في ظهر الجمعة الباردة، بعد تلك الضمّة أصبحَ العالم صقيعًا، مات الشعور، أحتضر البُكاء، وانشطر في عيني القمر، وقصم فراقك قلبي شطرين، شطرُ دُفن معكِ، وآخر بقيَ، علّمني فقدُك يا أمي أن الأحياء هم من يتألمون وليس الموتى ! هذا الألم يشعل فتيل قلبي في كل لحظةٍ لأدثركِ بالدعاء . علمني فقدك يا أمي أن الشوق للأحياء يُزهرُ باللقاء أمًا الشوق للأموات يبقى شوكًا أشعر بحركته في شرايين قلبي كلما هبت عليه ذكراكِ.. لقد حنّ قلبي لك يا أمي حتى أنحنىٰ ! علمني فقدك يا أمي أن الصبرَ ضياء يحرق ويورق ! ولا زلتُ احتمل الاحتراق طمعًا في الإيراق لعل الله يجازي صبري رؤيتك في جنته ! علمني الفقدُ يا أمي أنكِ الحياة التي لم تكتمل! وأنكِ الثغور التي لم تُسدْ ! وأنكِ الروح التي لن تُردْ ! علمني الفقد يا أمي أن أغبط القبر الذي يضمك! وأشتاق أن أشم رائحة التراب الذي نال شرف احتضانك ! رغم جلل مصاب قلبي بك..إلا أن الله معي.. إنه الإيمان، إنه الرضا. تخيّل أنك في سفر الحياة بلا إيمانٍ ستكون أول وعكة لك هي القاضية .. هكذا علمني فقد أمي: أن الحياة مستمرة وأنت من تمتلك علبة الألوان فيها . والموتُ يغيب من نحب لنحيا من جديدٍ حياة تقربنا من الله اكثر رضا وتسليم حياةٌ من فقْد..وشيءٌ من الإيمان .. والعزاء يا أمي: ( قد هانَ بعدكِ كلُّ فقدٍ مهما عظُم ) الرحلة لابدّ أن تنتهي،ولكل أجل كتاب،والموعد الجنة. الأم إحدى جنان الله التي وضعها في الأرض، فلا تشغلنّكم دنياكم عن جناتكم، الجنة نعيمٍ فلا تحرموا أنفسكم هذا النعيم. الكاتبة الصحفية مها بنت محمد البقمي