✒كم حرمتْنا هذه العبارةُ من علومٍ جمة، فقط لأن مصنفيها ممن يختلفون عنا في مسائلَ محدودةٍ في العقيدة، من كتب أهل القبلة من معتزلة وشيعة وأشاعرة، وانسحب هذا التحذيرُ على كلِّ العلومِ: النحو والأدب والبلاغة. ولا بأسَ من التحذيرِ من عقائدهم، ولكنْ تركُ علمِهم بالكلية، فهذا والله حرمانٌ من علومٍ كثيرة، فليس المحذَّرُ منهم جهلةً، بل علماءُ كبار، ومنهم من هو رائدٌ في علمه لا بد من الرجوع إليه فيه. وإذا كنتَ تعلمُ أنه لا يُغني كتابٌ عن كتابٍ فكذلك لا يغني عالمٌ عن عالمٍ، وكما يسُرنا الولعُ بمنهجِ السلفِ الصالحِ ومؤلفاتهم وترويجها واختصارها والتعليق عليها وخدمتها بما يليق بها، فإنَّ النظرَ في اعتراضاتِ خصومِهم والتهمِ الملصقةِ بهم من النُّصحِ لهم؛ لنعرفَ من أين أُتُوا، فنُصححُ المفاهيمَ ونُنقِّي العلومَ ونقِرُّ بخطأ ما لا دليل عليه. والتاريخ يحدثنا أن تلاميذَ الشيخِ أولَ ما يتصدرون في العلمِ يقومون بالاستدراكِ على مشايخهم وتصحيحِ أوهامِهم، فيفرحُ شيوخُهم بصنيعهم؛ لأن غايةَ القومِ العلمُ لا الظهورُ والتصدُّر، فهم يرونَ في هذا من باب النصيحة وتنقيةً لعلومهم. ارفض ما تشاءُ من عقيدة المخالفين، ولكن لا تحرمْ نفسَك من علمهم، فأعتى المعتزلةِ والأشاعرةِ عندهم من العلومِ النافعةِ ما لا يُعَدُّ كثرةً. وغايةُ ما هنالك من الاختلافِ نقاطٌ معدودةٌ في العقيدةِ لا تخرجهم من الملة، وما كان سببُ خلافِهم لأهلِ السنةِ جَدلاً؛ بل هم مجتهدون يرون أنهم ينزهون الله بهذا القول، وأن فهمَهم للإسلام تعظيمٌ لشأنه وإعلاءٌ لمنزلته. والحديثُ هنا عن العلمِ المُهدَر، لا عن العقائدِ، وإذا كان التحذير من كتبهم متجهًا للناشئةِ فنعم، ولكننا نرى شطبًا تامًا دائمًا لهم، وكأنَّ عقيدتَنا من الهشاشةِ بحيثُ تترنحُ من قراءة نتاج المخالفين؟ بل إن علماءَنا ما ردوا على مخالفاتهم إلا باستيعابِ ما كتبوا، والاختلافُ سُنةٌ كونية، قال الله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) هود /118 ، 119 . فمن ضِمن أدباءِ المعتزلةِ وكبارِ النحويين وأعلامهم أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، ومنهم المعتزلي الجَلْد المتعصب محمود الزمخشري الذي ألف (أطواق الذهب في المواعظ والخطب، والقسطاس في علم العروض، والمفصل في صنعة الإعراب، والمستقصى في أمثال العرب، والفائق في غريب الحديث، والجبال والأمكنة والمياه، وربيع الأبرار، والكلم النوابغ، وأساس البلاغة، وغيرها) ودعك من تفسير الكشاف إن كنتَ تحذر عقيدتَه، هذا غير الجاحظ الذي لا يستغني أديبٌّ عن قلمه. ومن أئمة الأشاعرة: عبدالقاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة، وصاحب الكتابين الجليلين: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة. ومنهم: أبو إسحاق الإسفرايينيّ، وأبو نُعَيم الأصبهانيّ، وأبو محمد الجوينيّ، وأبو المعالي الجوينيّ، وابن الأثير وابن منظور وابن عقيل وابن آجروم، وغيرهم جمٌّ غفير. وأرى أن الأخذَ من العلوم النافعة يوسع المدارك ويولد التسامح بين الفِرق، وكلٌّ حسابه على الله، وألا تأخذنا العزةُ بالرفضِ لعلمِ كُلِّ من لم يكن على طريقتنا، ولا تغترَّ بقول قائلٍ: أغنانا الله عنهم بعلمائنا.