لعبت المعتزلةُ دوراً رئيسياً ومهماً في رحلة تطور الفكر الإسلامي. ونظرة سريعة إلى معتقدات الفرق والمدارس المختلفة في مجال العقيدة تُرينا الآثارَ والبصماتِ التي تركها عظماء المعتزلة على معظم هذه الفرق والمدارس. ولاحظ ذلك نيكلسون في كتابه عن تاريخ الآداب العربية حيث يقول: "إن المعتزلة قد رفعت بطريقة غير مباشرة الفكر الإسلامي إلى درجة تستحق الاعتبار". وامتدح دورهم الإمام أبو زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية" حيث يقول: "إن هؤلاء ]= المعتزلة[ يعدون فلاسفة الإسلام حقاً". وحتى غولدتسيهر المعروف بمطاعنه في الإسلام اعترف في كتابه "العقيدة والشريعة" بتأثير المعتزلة الكبير قائلا: "نحن لا نستطيع نكران أنه كان لنشاط المعتزلة نتيجة نافعة. فقد ساعدوا في جعل العقل ذا قيمة، حتى في مسألة الإيمان. وهذا هو الفضل الذي لا يُجحد، والذي له اعتباره وقيمته، والذي جعل لهم مكاناً في تاريخ الدين والثقافة الإسلامية. ثمّ إنّه برغم كلّ الصعوبات التي أثارها مذهبهم، وكلّ ما أنكروه على خصومهم، فإنّ حقّ العقل قدِ انتصرَ على أثر كفاحهم بنسبة صغيرة أو كبيرة، حتى في الإسلام السني، ولم يكن هيناً بعد هذا إبعاده تماما". أمّا العالم المصري أحمد أمين فيقول: "وكان للمعتزلة الفضل الأكبر في علم الكلام، لأنّهم كانوا أكبر المدافعينَ عن الإسلام ضدّ ما كان يثيره اليهود والنصارى". وحتى الذين هاجموا المعتزلة بشدة وكفّروهم ونسبوهم إلى الزندقة والإلحاد، فإنهم مدينون للمعتزلة بشهرتهم، لأن المعتزلة هم الذين وضعوا أسس علم الكلام وبحثوا في موضوعات ومسائل لم يسبقهم إليها أحدٌ. فلولا أنهم أبدعوا وألفوا المصنفات المختلفة، وبحثوا في مسائل علم الكلام، لما وجد مَن هاجمهم شيئاً يبحث فيه وينقده. ومَن ينكر أنه لولا ظهور المعتزلة لما سمعنا عن شخصيات كبيرة في الإسلام اليومَ امثال أحمد بن حنبل والأشعري والباقلاني والبغدادي والجويني والغزالي. ثلاث ضربات حاسمة كان على المعتزلة أن تتماسك وتدافع عن الأصول والمبادئ التي وضعها كبار مفكريها ضد ثلاث ضربات موجعة وجّهها الى المعتزلة ثلاث شخصيات معروفة في التاريخ الإسلامي هي: أحمد بن حنبل، وابن الريوندي الملحد، وأبو الحسن الأشعري. بل إن هذه الشخصيات لم تدخل التاريخ من أوسع أبوابه لولا صلتها بالمعتزلة وخلافها مع فلسفتهم. وجّه الضربة الأولى إلى المعتزلة أحمد بن حنبل ليثأر لنفسه ولأصحاب الحديث مما أصابهم من سوء العذاب على ايدي المعتزلة في سنوات حكم المأمون والمعتصم والواثق. وكما أوجزنا من قبل، فإن هجوم ابن حنبل على المعتزلة وقع بعد تولي المتوكل الحكم بقليل. وحيث أننا ذكرنا الصورة التي وقع بها هجوم الحنابلة على المعتزلة، فعلينا الآن أن نستعرض ظروف الضربة الثانية التي تلقتها بعد ضربة ابن حنبل. هجوم ابن الريوندي الملحد كانت الضربة الثانية موجّهةً من ابن الريوندي الملحد 215-298 ه الذي اشتهر في تاريخ الإسلام كأكبر ملحد على مرّ العصور. وجّه ضربته إلى المعتزلة في أواخر القرن الثالث الهجري. وعلى نقيض ابن حنبل الذي كان محدثاً يكره علم الكلام، كان ابن الريوندي من كبار مفكري المعتزلة في عصره. يقول البلخي عنه في كتابه "محاسن خرسان": "كان من المتكلمين. ولم يكن في زمانه أحذق منه بالكلام، ولا أعرف بدقيقه وجليله. وكان في أوّل أمره حسن السيرة، حميد المذهب، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كلّه لأسباب عرضت له. وكان علمه أكثر من عقله...". تمرّدَ ابن الريوندي على المعتزلة، وخرج عنهم، وكتب كتابه "فضيحة المعتزلة" ردّا على كتاب الجاحظ المفقود "فضيلة المعتزلة". وتصدّى أبو الحسين الخيّاط المعتزلي لابن الريوندي، وردّّ على كتابه هذا بكتاب "الانتصار والردّ على ابن الريوندي الملحد". كان هجوم ابن الريوندي على المعتزلة شرساً عنيفاً، استفاد منه بعد ذلك كل مَن أراد أن يهاجم المعتزلة من الحنابلة والأشاعرة. يقول المستشرق نيبرج: "... إنّ البغدادي في تأليف كتاب "الفرق بين الفرق" أخذَ أكثر ما نقله عن المعتزلة من كتاب ابن الريوندي ]فضيحة المعتزلة[ ... وأمّا الشهرستاني، فقد ورد في كتاب "الملل والنحل" ما يدلّ على معرفته بكتاب "فضيحة المعتزلة"، إذ ذكر ابن الريوندي في بعض المواضع، ونقل عنه أشياء نجدُ بعضَها في كتاب الانتصار". ويرجع السبب في ذلك إلى أن ابن الريوندي كان ملماً بقواعد وأصول الاعتزال، على علم ودراية بالخلافات والانقسامات التي كانت بين مفكري المعتزلة وفلاسفتهم، والتي كانت، إلى حدّ ما، راجعة إلى حرية الرأي والفكر التي سادت مدرسة الاعتزال. فلما انفصل ابن الريوندي عن المعتزلة، لم يكن جاهلاً بمواضع الضعف والمسائل التي يمكن أن يهاجمها في الفكر المعتزلي، بل كان على دراية كاملة بكل نقاط الضعف والانحراف عند مفكري المعتزلة وفلاسفتهم. ولولا أن نقده كان شاملاً ودقيقاً، لما تصدّى له مفكر كبير كالخياط المعتزلي. وعلى رغم قسوة هجوم ابن الريوندي على المعتزلة، فإنه لم يلاقِ القبول المنتظر والاستحسان المتوقع لدى أهل السنة والحديث أعداء المعتزلة الالداء. انقلاب الأشعري على المعتزلة أما الضربة الثالثة التي تلقتها المعتزلة فكانت أيضاً من مفكر معتزلي كبير، ونعني به أبا الحسن علي بن اسماعيل الأشعري 260ه/873م - 324ه/935م الذي تتلمذ على زوج أمه الأستاذ أبي علي الجبائي المعتزلي توفي سنة 303 ه - 915 م. وظلّ الأشعري على الاعتزال حتى بلغ الأربعين، ثم تمرّد على المعتزلة في حدود سنة 300 ه 912 م. وذكرت كتب التاريخ أسباباً مختلفة لانفصال الأشعري عن المعتزلة. فابن عساكر يحكي في كتابه "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري" قولاً للأشعري مضمونه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر له ثلاث مرات في شهر رمضان. فأمره في المرة الأولى أن ينصر الأحاديث النبوية المروية عنه، وفي المرة الثانية قال له الرسول: "انصر المذاهب المروية عني". فعزم الأشعري على ترك الكلام ودراسة الحديث والقرآن. فلما كانت الرؤية الثالثة، لامه رسول الله على ترك الكلام، وأمره مرة أخرى بنصرة المذاهب المروية عنه. ويميل وات إلى تصديق ما تحمله هذه الرواية من معنى، في حين أنه يُكذّب ويُشكّك في صحة المحاورة المشهورة التي جرت بين الأشعري والجبائي حول نظرية "الصلاح والأصلح" التي دارت كالتالي: "سأل الشيخ أبو الحسن أستاذه يوماً عن ثلاثة: مؤمن وكافر وصبي، قائلاً: ما عاقبتهم؟ فأجاب قائلاً: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة. فردّّ الأشعري عليه قائلاً: هل يستطيع الصبي أن يكون من أهل الدرجات؟ فقال: لا. فقال الأشعري: ولِمَ؟ فردّّ الجبائي: لأنه يُقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها. فردّّ الأشعري قائلاً: فإن قال الصبي: لم أقصّر، ولكني مت قبل أن أتمكن من عملها. فأجاب الجبائي: إن الله يقول له: كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت، فكانت مصلحتك في الموت صغيراً. فردّّ عليه الأشعري: فإذا قال الكافر: ولماذا، يا رب، لم تراعِ مصلحتي أنا الآخر فأموت صغيراً، وأنت تعلم أني حين أكبر سأكون كافراً؟ فلم يحر الشيخ جوابا". ويعتقد المستشرق وات بأن سبب انفصال الأشعري عن المعتزلة هو أن الأشعري عندما كان معتزلياً يدرس على الجبائي، أدرك بحسه المرهف أن العصر الذهبي للاعتزال قد انقضى، وأن المعتزلة في عصره كانوا قد انطووا على أنفسهم، وكانوا ينظرون إلى إنجازاتهم في العصر الذهبي ويعيشون على الماضي من دون أن يكون لهم دور فعال في حياة المسلمين في ذلك الوقت، ما دفع الأشعري إلى الانفصال عنهم لأن المستقبل الذي كان ينتظر المعتزلة حينئذٍ لم يكن مستقبلاً مشرقاً. ففضّلَ الأشعري أن يعالج المسائل الملحة التي كانت تشغل المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، وأن يترك الاعتزال. ومهما يكن من أمر فإنّ ما يهمنا هنا هو الهجوم الذي أعلنه الأشعري على المعتزلة. يقول المقريزي في "الخطط": "... تُلمذ ]الأشعري[ لزوج أمه أبي علي محمد بن عبدالوهاب الجبائي، واقتدى برأيه في الاعتزال عدة سنين، حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة. وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسياً، ونادى بأعلى صوته: مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني، فأنا أعرّفه بنفسي. أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وإنّ الله لا يُرىَ بالأبصار، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب، مقلع، معتقد الردّ على المعتزلة، مبين لفضائحهم ومعايبهم". إن الموقف الجديد الذي اتخذه الأشعري هو في الواقع محاولة للتوفيق بين نزعة المعتزلة العقلانية وميل الحنابلة والحشوية إلى الجمود ووقوفهم عند ظاهر النصوص، ورفضهم لعلم الكلام والبراهين العقلية. ونقل ابن عساكر في كتابه "تبيين كذب المفتري" قول إمام الحرمين الجويني توفي سنة 478 ه/1085 م أن الأشعري: "نظر في كتب المعتزلة والجهمية والرافضة، وأنهم عطلوا وأبطلوا، فقالوا: لا علمَ لله، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا بقاء، ولا إرادة. وقالت الحشوية والمجسمة والمكيفة المحددة إن لله علماً كالعلوم، وقدرة كالقدر، وسمعاً كالأسماع، وبصراً كالأبصار. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما". ووصف هنري كوربان طريقة الأشعري بأنها بين "... تطرف المتمسكين بحرفية النص من أهل الحديث، وتطرف العقليين من أهل الاعتزال". ولا شك في أن محاولة الأشعري التوفيق بين فكر المعتزلة العقلاني وأسلوب الحنابلة الذين يميلون إلى الجمود والتقليد، لم تكن لتنال رضى المعتزلة أو قبول الحنابلة والحشوية. ولكن كيف تطور الهجوم الأشعري على المعتزلة؟ قام الأشعري أوّلاً بالانفصال عن المعتزلة، ثم وضع أسسَ المدرسة الجديدة التي سُمّيت باسمه. وبعد ذلك قام بالهجوم على المعتزلة والحنابلة. ثم جاء تلامذته من بعده، وطوّروا هذا الهجوم حتى شمل في عصر الغزالي توفي 505 ه/1111م الهجوم على الفلاسفة أيضاً. ثم حدث بعد ذلك هجومٌ مضاد على الأشاعرة من جانب المعتزلة والحنابلة والظاهرية والفلاسفة. فحوى هجوم الأشعري على المعتزلة كان هجوم الأشعري على المعتزلة مشابهاً لهجوم ابن حنبل عليهم. فقد شمل هذا الهجوم سبّ ولعن المعتزلة أولاً، ثم مهاجمة ما ذهبوا إليه في أصولهم وفلسفتهم، والقول بمبادئ وأصول مخالفة لهم. أما عن سب الأشعري ولعنه للمعتزلة، فقد وردَ في "تبيين كذب المفتري" القول التالي لعلي ظاهر بن أحمد: "مات أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، ورأسه في حجري. وكان يقول شيئاً في حال نزعه من داخل حلقه، فأدنيت إليه رأسي وأصغيت إلى ما كان يقرع سمعي. فكان يقول: لعن الله المعتزلة، موهوا، ومخرقوا". وركّزَ الأشعري هجومه على المعتزلة في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة". فهو يعلن في المقدمة أنّ المعتزلةَ هم "الزائغونَ عن الحق"، وأنهم هم المقصودون بحديث الرسول: "القدرية مجوس هذه الأمة". إذا عدنا للحديث عن ردود الأشعري على المعتزلة وهجومه عليهم في كتابه "الإبانة"، فعلينا أن نكتفي بذكر بعض أهم المسائل التي كان يدور حولها الجدال في ذلك الوقت، ونعني بذلك مسألة خلق القرآن، ورؤية الله يوم القيامة، وعذاب القبر، والشفاعة، والقول في الشر. أما عن القرآن، فقد سبق أن أوضحنا أن المعتزلة كانت تقول بخلق القرآن، فقال الأشعري في "الإبانة": "نقول إنّ كلامَ اللهِ غير مخلوق، وإنَّ مَن قالَ بخلق القرآن، فهو كافر". وبينما أنكرت المعتزلة عذاب القبر، قال الأشعري في "الإبانة": "نؤمنُ بعذابِ القبر ...". ونفت المعتزلة رؤية الله يوم القيامة، وأقرها الأشعري بقوله: "ندين بأن الله يُرى في الآخرة بالأبصار، كما يُرى القمر ليلة البدر". وأنكرت المعتزلة شفاعة رسول الله لمن استحق العقاب من المؤمنين، وردّ الأشعري في "الإبانة" بقوله: "نقول إن الله عزّ وجلّ يُخرجُ قوماً من النار بعد أن امتحشوا ]= احترقوا[، بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...". أما عن القول في الشر والمعاصي، فقد ذهبت المعتزلة إلى القول ان الإنسان هو خالق الشر والمعاصي، وان الله تعالى "لا يجوز أن يكون مريداً للمعاصي". وعارض الأشعري قول المعتزلة هذا وذهب إلى أن "الخير والشر بقضاء الله وقدره". تطوير هجوم الأشاعرة على المعتزلة بعد وفاة الأشعري حاولنا سابقاً تلخيص انفصال الأشعري عن المعتزلة، ثم قيامه بمهاجمتهم ولعنهم، ومحاولته التقرب من الحنابلة وأهل الحديث. ولم يكن لهذه النزعة الجديدة - أي محاولة التوسط بين العقلانيين ممثلين في المعتزلة والتقليديين ممثلين في أصحاب الحديث والحنابلة - أن تستمر ويُكتب لها الدوام لولا ظهور شخصيات كبيرة في الأجيال التالية للأشعري، وتبنيها الأصولَ التي وضعها الأشعري، وتوسّعها فيها وتطويرها إياها ودفاعها عنها. وكان من أهم هذه الشخصيات أبو بكر الباقلاني توفي سنة 403 ه، وعبدالقاهر البغدادي توفي سنة 429 ه، وأبو المظفر الاسفرايني توفي سنة 471 ه، والإمام الغزالي توفي سنة 505 ه، والشهرستاني توفي سنة 548 ه، وغيرهم. وما يهمنا في هذا السياق هو ذكر بعض ما كتبه هؤلاء المفكرون الأشاعرة في هجومهم على المعتزلة، وانتصارهم للمذهب الأشعري. وقبل أن نحاول تلخيص ما ذكره هؤلاء الكتّاب الخمسة، علينا أن نلاحظ أن أكثر هؤلاء تطرفاً في الهجوم على المعتزلة هو عبدالقاهر البغدادي الذي ذكر ابن خلكان أنه كان تلميذاً لأبي اسحاق الاسفرايني، وكان الصاحب بن عباد توفي سنة 385 ه/995م قد وصف أبا اسحاق هذا بأنه "نار تحرق". أبو بكر الباقلاني يتولى الهجوم على المعتزلة إذا بدأنا بذكر الباقلاني وما كتبه للدفاع عن الأشعرية والهجوم على المعتزلة، سنلاحظ أنه في كتابه "إعجاز القرآن" يُحاول أن يُقلل من قيمة الجاحظ، وهو الذي وصفه الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "هموم المثقفين" بأنه "أعظم المثقفين العرب على الإطلاق". ولا شك في أن الذي دفع الباقلاني إلى تجريح الجاحظ ومحاولة إظهاره بصورة غير لائقة، هو انتماء الجاحظ إلى المعتزلة الذين كان الباقلاني يستغل كل مناسبة للهجوم عليهم والتقليل من شأنهم. يقول الباقلاني في "إعجاز القرآن"، في سياق نقده للجاحظ: "... متى ذكر من كلامه سطراً أتبعه من كلام الناس أوراقاً، وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتاباً". وهذا بالطبع نقد غير موضوعي، يميل بوضوح إلى التجريح. ويتابع الباقلاني هجومه على المعتزلة في كتاب "التمهيد" الذي يُمكننا أن نقول انه في معظمه ردود على الفرق والمدارس المخالفة للأشعرية، خصوصاً المعتزلة. فهو يُكرّسُ باباً خاصاً لتبيين آراء المعتزلة. ولكن بدلاً من أن يذكر شيئا عن الأصول الخمسة التي وضعها المعتزلة كأساس لمدرستهم وفلسفتهم، ويشرح شيئاً عن الفروع التي تحدثوا فيها والمسائل التي عالجوها، نجده يكتفي بذكر بعض المسائل التي خالفت المعتزلة فيها الأشعرية، ثم يُنهي هذا الباب بقوله: "ولو تتبعت ذكر ضلالاتهم، وقبح مذهبهم، وشنيع ما أدخلوا في الدين، وخالفوا به ... قول كافة المسلمين، وسائر السلف الصالحين، لطال بذلك الكتاب، ولخرجنا بذكره عمّا له قصدنا ...". ثم يتناول الباقلاني أشهر مسائل الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة، فيعقد باباً يُثبت فيه أنّ لله وجهاً ويدين، خلافاً لقول المعتزلة. ثم إنه يقرّ بصحة حديث الشفاعة، ويردّ على المعتزلة الذين أنكروا الشفاعة. ويعقد باباً آخر بعنوان "باب الكلام في جواز رؤية الله بالأبصار" يردّ فيه على مذهب المعتزلة أن الله لا يُرى بالأبصار. ويُخصّص باباً آخر يردّ فيه على المعتزلة في قولهم إن العباد يخلقون أفعالهم. وتخفّ لهجة الباقلاني وتفقد بعض حدّتها عندما يتحدث عن المعتزلة في كتابه "البيان" الذي يقول الأب مكارثي عن تاريخ تأليفه: "أعتقد أن كتاب البيان من الكتب التي صنفها الباقلاني في أواخر حياته ...". ولعل سبب عدم مهاجمة الباقلاني المعتزلةَ بحدّة في كتابه هذا، مثلما فعل في كتاب "التمهيد"، هو ما لاحظه المستشرق الفرنسي ماسينيون، ونقله عنه الأب مكارثي، أنّ الذي دفع الباقلاني إلى تأليف هذا الكتاب ووضعه لنظريته في المعجزات هو "أعاجيب الحلاج". ومع ذلك فالباقلاني يُخصّص باباً في كتابه ذلك - "كتاب البيان" - بعنوان "الردّ على المعتزلة القدرية". وذكره للقدرية هنا من باب الذم والقدح، وليس المدح والتقدير. * باحث مصري مقيم في زوريخ - سويسرا.