ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    استراتيجية الردع الوقائي    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تطوير هجوم الأشاعرة على المعتزلة بعد وفاة الأشعري 2 من2
نشر في الحياة يوم 03 - 08 - 1999

تولّى عبدالقاهر البغدادي مِمة مهاجمة المعتزلة وشتمهم بعد الباقلاني. وهو كما ذكرنا سالفاً أكثر الأشاعرة تطرفاً وحدة في الهجوم على المعتزلة والدفاع عن الأشعرية. فقد ألّفَ كتابه المعروف "الفرق بين الفرق" على أساس حديث موضوع، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". وقد كذّب هذا الحديث وانتقده ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، حيث يقول: "ذكروا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، وحديثاً آخر: تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، كلها في النار، حاشا واحدة، فهي في الجنة ... هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد".
ومهما يكن، فإن كتاب البغدادي "الفرق بين الفرق" - وإن كان فيه بعض المعلومات المفيدة عن الفرق الإسلامية - إلا أنه مملوء بالقدح والشتم في كل الفرق المخالفة للأشعرية، خصوصاً المعتزلة. ويصف المستشرق وات هذا الكتاب قائلاً: "نعم إن البغدادي قد ذكر معلومات عن الفرق المختلفة، ولكنه يفعل ذلك عادة بأسلوبه الخاص، وليس بأسلوب واصطلاحات المفكرين الذين نقل آراءهم. وهو يميل إلى إظهار الآراء التي يعتبرها إلحادية أو مريبة. وفي حالة بعض الفرق الهامة، مثل المدارس الفرعية للمعتزلة، فإنه يضع قائمة بالأخطاء الرئيسية لكل فرد منهم". والبغدادي في كتابه هذا، عندما يذكر المعتزلة، لا يتحدث عن أصولهم الخمسة والفروع التي أتبعوها لهذه الأصول - تماماً كما فعل الباقلاني من قبل في كتابه "التمهيد" - ولكنه يُحاول إظهار مفكري المعتزلة بصورة الكفرة الملحدين الذين خرجوا عن الإسلام، أو أدخلوا فيه ما لا يصح من الأصول والأفكار الإلحادية. فكل ما تقوله المعتزلة، في رأي البغدادي، كفر وإلحاد وفضائح وبدع وضلالات وجهالات. وفي أحد المواضع نجده يتحدث عن ابراهيم النظّام المعتزلي، فيقول: "حشرك الله مع الكلاب والخنازير والحيات والعقارب، إلى مأواها". وفي موضع آخر يذمّ الجاحظ المعتزلي، لأنه قبيح الخلقة، فيقول فيه: "لو يُمسخ الخنزير مسخاً ثانياً، ما كان إلا دون قبح الجاحظ". وجملة القول في كتاب البغدادي "الفرق بين الفرق" أنه مملوء بالطعن والسب والشتم، لم يتبع فيه مؤلفه الأسلوب العلمي الصحيح.
أما كتابه الآخر "أصول الدين"، وإن كان أخفّ حدّةً في لهجته وهجومه على المعتزلة، إلا أن البغدادي لم يُغيّر رأيه فيهم، فنجده يتحدث عنهم في أحد الفصول، فيقول: "إعلم أن تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب من وجوه". ويقول في موضع آخر: "وأنواع كفرهم ]= كفر المعتزلة[ لا يُحصيها إلا الله تعالى". وفي سياق حديثه عن أهل الأهواء، حيث يعتبر المعتزلة منهم، يقول: "أجمعَ أصحابُنا ]= الأشاعرة[ على أنه لا يحلّ أكل ذبائحهم ]= ذبائح أهل الأهواء[ ... ولا يجوز عندنا تزويج المرأة المسلمة من واحد منهم ... وأجمعَ أصحابنا على أن أهل الأهواء لا يرثون من أهل السنة".
أبو حامد الاسفرايني يستأنف الهجوم
ورث هذا التطرف وهذه الشدة على المخالفين للأشعرية عن البغدادي تلميذه وصهره أبو حامد الاسفرايني ت سنة 471 ه. وكتابه الوحيد الذي بقي لنا باللغة العربية "كتاب التبصير في الدين" يُرينا مدى تأثير البغدادي في أسلوبه وطريقة فهمه للخلافات بين الفرق. لم يُبدع أبو حامد الاسفرايني في هذا الكتاب، ولم يأتِ بأي شيء جديد. ولا نُبالغُ إذا قُلنا إن "كتاب التبصير في الدين" هو مختصر لكتاب البغدادي "الفرق بين الفرق"، اذ نقل الاسفرايني منه مُعظم المعلومات التي أوردها في كتابه هذا نقلاً يكاد يكون حرفياً. ومن هنا فإن كلَّ ما قالته المعتزلة "جهالات وضلالات وفضائح وبدع وكفر وإلحاد". وإلى جانب ذلك، امتدح الاسفرايني البغدادي كثيراً في هذا الكتاب، وقال عنه: "كان فرد زمانه، وواحد أقرانه في معارفه وعلومه".
الغزالي وموقفه من المعتزلة
قبل أن نتحدث عن الغزالي ت 505 ه/1111م، والدور الذي قام به في الدفاع عن الأشعرية والهجوم على المعتزلة، نودّ أن نشيرَ أوّلاً إلى أنه يعتبر من أهم الشخصيات التي ظهرت في تاريخ الإسلام على الإطلاق. وقد أُلِّفت فيه عشرات الكتب والمقالات. ولا يتسع المجال هنا للتحدث عن حياته وأعماله، ولا يهمنا إلا موقفه من المعتزلة وعلم الكلام. لكنه لم يشتهر وتبلغ سمعته الآفاق عندما تعرّض للمعتزلة بالنقد والِجوم، وانما ترجع شهرته أساساً إلى هجومه على الفلاسفة، وتكفيره إياهم في بعض ما ذهبوا إليه. ومن مؤلفاته الكثيرة يعتبر كتاب "إحياء علوم الدين" وكتاب "تهافت الفلاسفة" أكثرها شهرة ورواجاً.
ألّف الغزالي عدداً كبيراً من الكتب في مختلف الموضوعات. ووصفه فيليب حتي بأنه "أعظم علماء الكلام في الإسلام". لكن الدكتور مصطفى غالب اتهمه بعدم النزاهة في حكمه أحياناً، حيث يقول في كتابه "الغزالي": "أن يحمل الغزالي حملة شعواء على الفلاسفة وآفة الفلاسفة وغائلتها، يلتفت إلى الباطنية فيتناولهم بالنقد والتجريح، عارضاً عقائدهم، ومفنداً أفكارهم بأسلوب يدل دلالة واضحة على مدى تعصب الغزالي وإطلاقه التِم جزافاً"، بدون إدراك.
ويمكننا القول إن موقف الغزالي من المعتزلة كان يشبه إلى حدّ كبير موقفه من الباطنية، إذا افترضنا صحة قول الدكتور مصطفى غالب. نعم، علينا أن نعترف بأن الغزالي لم يكن متطرفاً في حكمه على المعتزلة مثلما كان البغدادي، لكن ليس معنى ذلك أنه نقد المعتزلة نقداً ايجابياً بعيداً عن التحيز والتعصب للأشعرية.
إنني أذهب إلى القول ان الغزالي كان يكُنّ للمعتزلة كلّ الاحترام والتقدير، وكان مدركاً لاهميتهم وقيمة أعمالهم. ولعلّ هذا هو الذي دفعه إلى عدم تكفيرهم في أي من كتبه. فنجده في كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" يُحدّدُ الشرط الذي يُكفّر بموجبه الآخرين، حيث يقول: "... الأصل المقطوع به أن كل مَن كذّب محمّداً صلى الله عليه وسلّم فِو كافر". وبناء على هذا الأصل فقد كفّر اليهود والنصارى والمجوس والدهرية والبراهمة والفلاسفة. ولما جاء ذكر المعتزلة، نلاحظ أنه لم يضعهم ضمن هؤلاء الذين اعتبرهم كفاراً، ولكنه خطّأهم فحسب في طريقتهم لتأويل القرآن، مثلهم في ذلك مثل بقية الفرق التي كانت تميل إلى تأويل كل ما لا يتفق مع مبادئها. يقول الغزالي في هذا السياق: "... ودليل المنع من تكفيرهم ]= أي المعتزلة وكل الفرق الإسلامية الأخرى عدا الأشاعرة[ أن الثابت عندنا بالنص تكفير المكذب للرسول، وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلاً. ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير ...". ويشير إلى المعنى نفسه في كتابه "المنقذ من الضلال"، حيث يقول في سياق حديثه عن الفلاسفة: "وأما ما وراء ذلك من نفيهم ]= الفلاسفة[ الصفات، وقولهم إنه ]= الله[ عالم بالذات، لا بعلم زائد، وما يجري مجراه، فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة، ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك ...".
كانت نظرية الصلاح والأصلح، ومبدأ فرض واجبات على الله عز وجل من أهم المسائل التي هاجمها الغزالي في الفكر المعتزلي. ويرجع ذلك إلى الأصل الذي وضعه أبو الحسن الأشعري في كتابه "الإبانة"، والذي يقضي بأن القدرة الإلهية لا حدود لها. وكان الباقلاني انتقد أيضاً نظرية الصلاح والأصلح في كتابه "التمِيد"، وقال إن هذه النظرية تتضمن أن مقدورات الله متناهية. كذلك انتقد أبو المظفر الاسفرايني قول المعتزلة بوجوب الأفعال الحسنة على الله، وقال في كتابه "التبصير في الدين": "إن الوجوب على الله محال".
انطلق الغزالي يدافع عن مبدأ الأشعرية الخاص بقوة الله المطلقة وقدرته التي لا حدود لها، وهاجم نظرية الصلاح والأصلح المعتزلية، وانتقد وضع المعتزلة الواجبات على الله تعالى. فليس هناك واجب على الله عند الغزالي، لأن قدرة الله مطلقة. ويشرح الغزالي موقفه من هذه المسألة في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" قائلاً: "إن المفهوم عندنا من لفظ الواجب ما ينال تاركه ضرر، إما عاجلاً وإما آجلاً ... والضرر محال في حق الله تعالى". وقاس الغزالي على هذا الأصل جميع المسائل التي أوجبتها المعتزلة على الله، وقال فيِا إنها ليست واجبة، ولكنها ممكنة. فهو يقول في نقدهِ نظريةَ الصلاح والأصلح في كتابه السالف الذكر: "ندعي أنه لا يجب عليه ]= على الله[ رعاية الأصلح لعباده، بل له أن يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، خلافاً للمعتزلة، فإنهم حجروا على الله تعالى في أفعاله، وأوجبوا عليه رعاية الأصلح".
ثم عدّد الغزالي بعض المسائل التي أوجبتها المعتزلة على الله وهاجمها ودافع عن رأي الأشعرية فيها: "... قالت طائفة من المعتزلة يجب عليه ]= على الله[ الخلق، والتكليف بعد الخلق"، وردّ على هذا بقوله إن ذلك جائز وليس واجباً. كذلك فإنه ردّ على المعتزلة في قولهم انّ الله لا يجب أن يُكلف العباد ما لا يطيقون، فقال: "إن لله تعالى أن يكلف العباد ما يطيقونه وما لا يطيقونه". وردّ على مضمون أصل المعتزلة "الوعد والوعيد" الذي يعني أن "... الله تعالى وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به، وتوعد عليه، لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب". كذلك هاجم الغزالي مكانة العقل السامية عند المعتزلة، ودافع بشدّة عن مبدأ الأشعري القائل بقوة الله المطلقة وقدرته التي لا حدود لها، وإنه "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون"الأنبياء 21:23.
والمثال الأول الذي يُوضّحُ مدى الخلاف بين المعتزلة والغزالي، الذي كان ممثلاً للمذهب الأشعري ومدافعاً عنه، هو ما عُرِفَ في علم الكلام باسم نظرية الحسن والقبح، أو التحسين والتقبيح. قال القاضي عبدالجبار في صدر باب العدل في كتابه "شرح الأصول الخمسة": "ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل حكيم، فالمراد به أنه لا يفعل القبيح ولا يختاره، ولا يخلّ بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة". وكان على المعتزلة أن تحدد معنى لفظي "قبيح" و "حسن" اللذين وردا في العبارة السابقة. يقول عبدالجبار في كتابه "المختصر في أصول الدين": "... إن العاقل يعلم أن الظلم قبيح، وكفر النعمة، والجهل بالله تعالى، وعبادة غيره. ويعلم أن الإحسان حسن، وشكر النعمة، والأكل والشرب إذا لم يفد ]= يؤدِ إلى[ المضرة ...". ويقول الشهرستاني في سياق استعراضه لهذه المسألة إن المعتزلة ذهبت إلى أن "العقل يستدل به على حسن الأفعال وقبحها". فكل شيء حسن فيه صفة ذاتية جعلته حسناً. وكل شيء قبيح فيه صفة ذاتية جعلته قبيحاً. والعاقل يصل إلى معرفة ذلك بعقله.
واستدل المعتزلة وبرهنوا على نظريتهم في الحسن والقبح بحجج عدة، فقالوا: "إن أحدنا لو خُيّرَ بين الصدق والكذب، وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر، وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً، وإن صدقت أعطيناك درهماً، وهو عالم بقبح الكذب، مستغن عنه، عالم باستغنائه عنه، فإنه قط لا يختار الكذب على الصدق. لا ذلك إلا لعلمه بقبحه، وباستغنائه عنه". وأوضحوا أنه لو لم يكن هناك قُبح وحسن يقرهما العقل، قبل ورود الشرع، لما استطاع الناس إدراك ما في الشرع والبعثة من حُسن، ولما تمكن الأنبياء والرسل من إقناع مَن أرادوا إقناعه. كذلك فإن العقل كان قبل ورود الشرع هو المقياس الذي يمكن به تقرير حُسن الشيء أو قبحه. فماذا كان موقف الغزالي من هذه النظرية؟ وكيف حكم على هذه البراهين التي ذكرتها المعتزلة لتؤيد بها نظريتها وتثبت صحتها؟
رفض الغزالي قبول نظرية التحسين والتقبيح المعتزلية، ولم يسلم بالحجج والبراهين المعتزلية لإثبات صحتها. والواقع أنّ مَن يقرأ معالجة الغزالي ونقده لهذه النظرية في كتابيه "الاقتصاد في الاعتقاد" و"المستصفى من علم الأصول" يشعر بالإشفاق على الغزالي الذي بذل مجِوداً ضخماً في محاولته لإثبات خطأ القول بالتحسين والتقبيح العقليين. ولكن نقده للنظرية كان أضعف بكثير من النظرية نفسها، أو بالأصح كانت هذه النظرية أقوى من نقده بكثير. فكل ما فعله الغزالي في محاولته لتفنيد هذه النظرية هو أنه ذكر استثناء لقاعدة ليثبت به خطأ هذه القاعدة. يقول الغزالي: "... وكذلك الكذب، كيف يكون قبحه ذاتياً ولو كان فيه عصمة دم نبي، بإخفاء مكانه عن ظالم يقصد قتله، لكان حسناً بل واجباً يعصى بتركه ...". وفي موضع آخر يقول: "إن الإنسان يُطلق اسم القبح على ما يُخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره ... فيقضي بالقبح مطلقاً".
ومهما يكن من شيء، فعلينا أن ندرك أن الغزالي في موقفه من القول بالتقبيح والتحسين العقليين الذي ذهبت إليه المعتزلة، وموقفه من معظم مباحث علم الكلام ومسائله، هو موقف المدافع والممثل للمدرسة الأشعرية التي كانت تبذل كل ما في وسعها للقضاء على مدرسة "المعتزلة". وهو في رفضه للتحسين والتقبيح العقليين إنما يردّد ما ذكره الأشعري، ونقله عنه ابن فورَك ت 406 ه/1015م في كتابه "مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري"، حيث يقول: "وكان ]= الأشعري[ يقول إن دلالات العقول حظها في بعض المعلومات دون بعض، وإن لا سبيلَ للعاقل من جهتها إلى التوصل إلى معرفة أحكام الأفعال في القبح والحسن والوجوب ...".
كذلك هاجم الجويني أستاذ الغزالي ت 478 ه/1085م هذه النظرية، حيث يقول في كتابه "الإرشاد": "]إن الحُسن[ هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذلك القول في القبح. فإذا وصفنا فعلاً من الأفعال بالوجوب أو الحظر، فلسنا نعني بما نثبته تقدير صفة للفعل الواجب، يتميز بها عما ليس بواجب، وإنما المراد بالواجب: الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجاباً. والمراد بالمحظور: الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظراً وتحريماً". وبعد الجويني وتلميذه الغزالي، تولى الشهرستاني الأشعري مهاجمة هذه النظرية، حيث يقول في كتابه "نهاية الإقدام في علم الكلام": "مذهب أهل الحق ]يقصد الأشاعرة بالطبع[ أن العقل لا يدل على حُسن الشيء وقبحه ... فمعنى الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، ومعنى القبيح ما ورد الشرع بذم فاعله". ويتضح لنا من هذه الأقوال أن الأشعرية بقدر تشديدها على قوة الله وقدرته المطلقتين، فهم يضعون العقل في مرتبة سفلى.
والمثال الثاني الذي يوضح مدى الخلاف بين المعتزلة والغزالي كممثل للأشاعرة، يدور أيضاً حول العقل. فثمة ثلاثة مواقف متباينة من النبوة، هي: النفي والوجوب والجواز. قالت البراهمة بالنفي والاستحالة، وقالت المعتزلة بالوجوب والحتمية، وقالت الأشعرية بالجواز والإمكان. وذكرت المعتزلة، كما اسلفنا، إنّ الشيءَ متى حَسُنَ وجبَ. وكذلك البعثة متى حسنت وجبت. يقول القاضي عبد الجبّار في سياق كلامه عن النبوات، والردّ على البراهمة: "الكلام في النبوات ووجه اتصاله بباب العدل، هو أنّه كلام في أنّه تعالى إذا علم أنّ صلاحنا يتعلق بهذه الشرعيات فلا بدّ من أن يعرّفنا بها، لكي لا يكون مخلاً بما هو واجب عليه. ومنَ العدلِ أن لا يخل بما هو واجب عليه. ... والأصل في هذا الباب أن نقول: إنّه قد تقرّر في عقل كلّ عاقل وجوب دفع الضرر عن النفس، وثبتَ أيضاً أنّ ما يدعو إلى الواجب ويصرف عن القبيح فإنّه واجب لا محالة. وما يصرف عن الواجب ويدعو إلى القبيح فهو قبيح لا محالة. إذا صحّ هذا، وكنّا نجوّز أن يكون في الأفعال ما إذا فعلناه كنّا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات - وفيها ما إذا فعلناه كنّا بالعكس من ذلك، ولم يكن في قوّة العقل ما يعرف به ذلك، ويفصل بين ما هو مصلحة ولطف وبين ما لا يكون كذلك - فلا بدّ من أن يعرّفنا الله تعالى حال هذه الأفعال، كي لا يكون عائداً بالنقص على غرضه بالتكليف. وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك، إلا بأن يبعث إلينا رسولاً مؤيداً بعلم معجز دالّ على صدقه، فلا بدّ من أن يفعل ذلك، ولا يجوز له الإخلال به. ولهذه الجملة قال مشايخنا: إنّ البعثة متى حسنت وجبت. على معنى أنّها متى لم تجب قبحت لا محالة. وأنّها كالثواب في هذا الباب، فهو أيضاً مما لا ينفصل حسنه عن الوجوب".
قال الغزالي: "ندّعي أنّ بعثة الأنبياء جائزة وليس بمحال ولا واجب. وقالت المعتزلة إنّه واجب. وقد سبق الردّ عليهم". وهو يشير بذلك إلى الرأي الأشعري في استحالة الوجوب على الله، حيث يقول: "... فإنّا بيّنا أنّ المفهوم عندنا ]= عند الأشاعرة[ من لفظ الواجب: ما ينال تاركه ضررٌ إمّا عاجلاً وإمّا اجلاً أو ما يكون نقيضه محالاً. والضرر محال في حقّ الله تعالى".
والغزالي بموقفه هذا لم يأتِ بأي جديد في الفهم الأشعري للإسلام. فهو يكرّر ما سبق أن قرّره مؤسس المذهب الأشعري، وكذلك ما وافقه عليه إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني أستاذ الغزالي. فالشهرستاني يشرح رأي الأشعري في مسألة النبوات قائلاً: "وانبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة. ولكن بعد الانبعاث ]يعتبر[ تأييدهم بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات". كذلك أكّد الجويني أستاذ الغزالي هذه المبادئ، حيث يقول في كتابه "الإرشاد": "... لا واجبَ عقلاً على العبد أو الله"، ويقول في كتابه "العقيدة النظامية": "إنّ النبوة تعريف الله عبداً من عباده أمراً بأن يبلغ رسالته إلى عباده. وهذا ليس من مستحيلات العقول". ونختم كلامنا هنا بقول للغزالي يُجسّم إلى حدّ بعيد موقف الأشاعرة من العقل، حيث يقول: "ندّعي أنّه لو لم يرد الشرع، لما كان يجبُ على العباد معرفة الله تعالى وشكر نعمته خلافاً للمعتزلة حيث قالوا إنّ العقلَ بمجرده موجب".
* باحث مصري مقيم في زوريخ - سويسرا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.