جاءت هذه السنة الخالدة داعمة لمشروع عمارة الإنسان للأرض واستخلافه فيها , فكانت مما يخلد بها الإنسان رغم محدودة عمره وزمن بقائه ولكنه كائن يتوق للخلود وهنا جاءت فكرة خلود الأفكار والمشاريع والأعمال بعد استحالة خلود الروح والجسد . والظاهر لي مني فكرة الوقف أنها جاءت لتخدم مساحات واسعة من معيشة البشر وحياتهم وتحقيق مصالحهم الدينية والدنيوية من خلال عدد من المنافع التي يحققها الوقف ذات الأبعاد المختلفة فمنها ما هو عام ذو بُعد اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو فكري وثقافي وعلمي ومنها ما هو خاص وشخصي . ورغم الفوائد الكبرى لسنة الوقف وانتشارها في المجتمعات الإسلامية وهذا أمر مبشر ومتصاعد , إلا أن الأوقاف تواجه مشاكل وتحديات عدة تحتاج من قوى المجتمع وصناع القرار شجاعة في الحل والمعالجة لكي تستفيد المجتمعات من تلك العوائد عبر الكثير من البرامج والأنشطة والمشاريع التي تحتاج إلى دعم وتمويل وإسناد . حيث تواجه إدارة الأوقاف في كثير من الأمصار إشكاليات كبرى أثرت على تحويل الفكرة إلى عامل بناء ورفعة ونهوض وقوة , ومن أبرز هذه الإشكاليات هي ضعف الإدارة والإهمال حيث تأثرت الكثير من الأوقاف بهذا الواقع الصعب ناهيك عن شيوع ثقافة العمل الفردي على حساب المؤسسي فيتحول الأمر إلى اجتهادات شخصية لا تخلو من الهوى والمزاجية والتعنت وغياب الشفافية وفي نهاية المطاف تكون النتائج على غير ما يريده الموقف رحمه الله , والذي اقتطع جزء ماله ووضعه في سبيل الله وعموم أعمال البر ولكن النتائج جاءت على غير ما يشتهي ويريد وهو بحاجة شديدة لهذا الخير المستمر بعد أن انقطعت أعماله وهذا حرمان خطير ولا شك وتعمده بغي وظلم . وهنا تحيد الأمور عن توجه الموقف ونيته فهو قدم عمل عظيم في فعل الوقف وبذل جهداً كبيراً في جمع المال أيضاً مهما كان حجمه , وهناك يكون الفشل في الإدارة صادماً وتفشي الأثرة وشيوع التنازع معطلاً للعمل ناهيك عن ضعف الرقابة الحكومية والعامة في هذا الباب مما يجعله في مهب الريح . فلا يوجد لدينا الجهات المتخصصة التي تطور الأوقاف أو مراقبة سير أعمالها بالشكل المنهجي والمنضبط بل ما زالت الأمور تدار بتقليدية بالغة وفي الغالب يكون القاضي هو من يحكم على هذا الأمر رغم أن الأمر يحتاج إلى خبرات اقتصادية وإدارية واستثمارية متنوعة بالإضافة الى البعد الشرعي, ناهيك إلى رقابة صارمة وشفافية ودقة ومحاسبة تمكن من وصول الحق إلى أصحابه وتمام الأمر على خير ما يكون . وهنا نرى أننا أمام الكثير من الأوقاف المعطلة أو المتعثرة او الضائعة أو الضعيفة وما يجعلنا نطرح هذه القضايا من اجل الارتقاء بهذه السنة وتفعيل دورها في المجتمع فهي لاعب أساسي في حل الكثير من المشاكل مثل الفقر والعوز والمرض وضعف الإمكانيات ومُعين كبير على صلة الرحم والزواج وأداء النسك والواجبات ودعم البرامج والأنشطة والمشاريع الدعوية والعلمية والصحية والاجتماعية والبحثية والإعلامية والتنموية والإبداعية ولها دور اقتصادي كبير في الرقي بالأوطان من خلال حبس الأموال والانتفاع بالإيرادات ولا يتم ذلك إلا عبر الكثير من المشاريع التجارية والاقتصادية التي لها بالغ الأثر في رقي الأمم والشعوب ونهضتها ودعم الرفاه الاقتصادي والحركة الاستثمارية والمساهمة في حل معضلة البطالة ومعضلة الإسكان وغيرها من الحلول للقضايا والملفات الساخنة . وهنا نطرح بعض الأفكار الهامة في هذا الباب : 1 / علينا تجاوز فكرة أن من يوقف هو الغني و الميسر فهناك أوقاف مفتوحة لعموم الناس وتُديرها جمعيات ومؤسسات متخصصة وأهل ثقة وكفاءة وهي مقسمة إلى أسهم , فلا يحرم الإنسان نفسه من هذا الخير المستمر إلى أن يرث الله الأرض من عليها , وعليه المبادرة مهما كان دخلة بما تيسر فهذا هو الباقي يوم تنقطع الأعمال , فروي عن بعض السلف إنهم كانوا يوقفون قدراً وبعضهم يوقف نخلة واحدة وغير ذلك من الأوقاف البسيطة ولكنهم لا يغادرون الدنيا بلا وقف . كما أن على الدول والمنظمات والهيئات الاهتمام بهذا الاستثمار الحضاري الهام ذو البعد الاستراتيجي المؤثر . 2 / مرت الحضارة الإسلامية بعهد زاهر في الوقف وتنوع أنشطته ومنافعه فكان هناك وقفُ لعابر السبيل ووقف للكلاب الضالة ووقف للخيول الهرمة ووقف للنساء الغاضبات حتى يعدن إلى أزواجهن ووقف لدعم طلبة العلم ووقف خاص بالمساجد وأنشطتها ووقف لتزويج الشباب ووقف يدعى وقف الزبادي وهو وقف خاص بمن انكسرت آنيته وهو ضعيف الحال فيتكفل الوقف بآنية جديدة لهذه الأسرة وأوقاف للطباعة والنشر وتعليم الناس وأوقاف صحية للعلاج . ومن هنا يتبين لنا تاريخياً حجم تأثير الوقف في مشروعنا الحضاري الإسلامي والبعد الإنساني الكبير الذي يحويه وأهميته الكبرى وتنوع أعماله ومشاربه ومصارفه وليس حصرها في أبواب محدودة فأبواب الخير لا حصر لها وعلى الإنسان أن يراعي الاحتياج والضرورة والتنوع بالإضافة ألا يترك باب خير إلا وطرقه , فيلاحظ من واقع الناس أنهم يركزون على الأضاحي أو الحج فقط وهي مصارف فيها فضل ولكنها ليست الأفضل وجاء الاهتمام بها حسب العادة واحتياج الناس في ذلك الزمان , وعليه فالتنوع والتوسع مهم في مصارف الوقف , و لا يعلم الإنسان أي خير يصيب واي كربة يفرج . 3 / اقترح إنشاء هيئات متخصصة لإدارة الأوقاف والارتقاء بها في عموم البلدان وتقدم هذه الهيئات خدمات استشارية وتنفيذية وبحثية داعمة للأوقاف بالإضافة إلى التدريب والتأهيل والتطوير , ناهيك عن المعلومات الضرورية التي يحتاجها الموقف أو ناظر الوقف أو مجلس إدارة الوقف أو الجمعيات والمؤسسات ذات العلاقة, ومن خلال هذه الهيئات نحاول مقاربة الحل لإشكاليات سوء الإدارة أو التخبط والعشوائية أو النزاعات أو ضعف المعرفة والتأهيل والإدراك ناهيك أن هذه الهيئات سوف تشجع على تحويل الفكر الإداري في الأوقاف من الفردية الى المؤسساتية بالإضافة أنها سوف تشجع على تنويع الاستثمار الوقفي في عدد من الأوعية الاستثمارية بدل حصر أغلبه في عالم العقار . كما أن هذه الهيئات بالتعاون من الدوائر القضائية سوف يطوران العمل الرقابي والإشرافي للأوقاف وتوفير التدخل اللازم والضروري في قضايا الأوقاف المعطلة أو المتردية أو الضائعة أو المتعثرة وتوفير العلاج السريع وإعادتها إلى دائرة العمل والإنتاج من جديد . 4 / على الإنسان أن يبحث عن أفضل الطرق والوسائل التي تمكن وصيته من التنفيذ وأن يستشير أهل الرأي والخبرة قبل الخوض في مثل هذه الأمر حيث يستفيد من الخبرات والتجارب وحكمة العارفين ثم يتخذ القرار على بينه فمن شاور الناس شاركهم عقولهم , فالأهم من كتابة الوصية وتحديد الوقف في نظري آلية التطبيق وضمان أفضل الوسائل لترجمتها إلى واقع وإلا بكل أسف تحولت كثيرُ من الوصايا والأوقاف إلى حبر على ورق وهباء تذروه الرياح وهذا واقع مرير تعيشه مجتمعاتنا والكل هناك خاسر سواء الموقف أو المجتمع والوطن والأمة وإخراج الوقف في حياة الإنسان بنظري أفضل من الوصية به بعد الموت وأضمن . 5 / من أجل زيادة حجم الوقف وتوسيع أصوله وإيراداته علينا أن ننفق جزء من الريع ونعيد استثمار الجزء الآخر خصوصاً إذا كان مجدياً , وسوف تتوسع مع السنوات الأصول والإيرادات بشكل كبير ولافت من خلال تطبيقنا لقاعدة إعادة استثمار الإيرادات . نماذج عالمية أثرت في مسار البشرية تبلغ أوقاف جامعة هارفرد الجامعة الأولى في العالم أكثر من 320 مليار دولار وجامعة ستنافورد 240 مليار دولار ومن هنا نعرف أهمية الوقف للبشرية قاطبة حيث قامت الكثير من الصروح والمشاريع وتألقت وازدهرت على منصات الأوقاف . محبرة الحكيم ملف الأوقاف ملف ساخن ومثقل , قُربنا منه يعني الكثير لنا ولأمتنا وأوطاننا ومجتمعاتنا وأشخاص أعزاء على قلوبنا رحلوا عن دنيانا , وإهماله وتجاهله يعنى خسارة كبرى لنا جميعاً بلا استثناء ,,, سلطان بن عبدالرحمن العثيم [email protected] @sultanalothaim