عجيب امر الموت ، يفتح صفحات مهملة من سير الراحلين ، كثيرون عندما يرحل من يحبون ، يبحثون في سيرهم عن بقايا من اعمال يؤمنون انها هي التي تنفع الراحل عند الله ، ويجعل الناس يثنون على الراحل من خلالها ، ما بالنا هكذا .؟ ونحن على مسرح الحياة نغفل عنها ، وحينما نرحل يبحث غيرنا عنها لنا ، فلا يجدوا الا بقايا من اليأس او التقصير. ****** وانا اشيع جنازة ( ابو فهد ) مع الجموع الغفيرة التي تبعته ، في عصر ذلك اليوم جالت بخاطري وانا اسرع الخطأ ، ترى ماذا قدم هذا الرجل ؟ فلم اجد مشقة ، فقد انهالت علي الخواطر، وتزاحمت المشاهد، التي اضاءت الزوايا الخفية لحياة هذا الرجل البسيط ، هنا تأتي الغبطة والحسد ، عندما تطفو على السطح الاعمال التي قدمتها في حياتك ، ولا تعرف الا بعدما تطوى حياتك . ابو فهد عاش في الظل ، حيث البساطة في الحياة والعيش ، لكن قلبة عرف الحقيقة ، فأوغل في السير خلفها ، فأثمرت في حياته ينابيع خير . عرفته منذ طفولتنا ، فصارت اخوة وصداقة ، مشاركة للآمال والطموحات ، فقد استطاع أن يثبت ان الانسان يستطيع ان يصنع شيئا ذا قيمة ، حتى ولو لم يتعلم ، او ينال الشهادات العالية ، فالوصول للقمة متاح لمن يصعد . اول خطوة اتخذها نبراسا له ، هي ان يجعل القران له منهجا و مدرسة في الحياة ، فأكب عليه وحفظه عن ظهر قلب ، وهو لم يزل فتى يافعا ، فحاول ان يتمثل ما فيه من منح ربانية ، يجد ثمارها من يأخذ بها ، تأملت تعامله مع والدية وبره بهما فوجدته من ارقى التعاملات ، انعكس ذلك على تعامل ابنائه معه ، امتلك خاصية ، قل ان توجد في زماننا هذا ، وهي نقاء السريرة ، وصفاء القلب ، وسلامة الصدر ، ظهر ذلك جليا في تعامله مع المحيطين به فانعكس حبا له ، تفنن في ابداعات صلة الرحم ، فالذي لا يستطيع الوصول اليه بنفسه ، يتواصل معه عبر وسائل الاتصال المتاحة فكثيرا كان يتواصل معي ، ثم يقول ليس لي غرض الا السلام والاطمئنان فقط قال احد الشباب عنه : ما ادري كيف (يبد) على الناس كلهم ؟ اسهم في قضاء حوائج من يحتاج من الارامل والمحتاجات من الاقارب دون ان يشعر به احد او يسبب لهن الحرج ، وقفت على كثير من هذه الاعمال . سلم من داء عضال اصاب كثير من الناس ، وهي التي تسمى في زماننا هذا ، فاكهة المجالس ، فلم اعرف عنه انه ذكر احدا بسوء ، وكان يغلق الباب و يصرف الحديث الى موضوع اخر، وكان يقول : ( اتركوا لحم اخيكم ) وهذه لا يجيدها الا من من الله عليه بقوة العزيمة وكبح جماح النفس ، من ذلك المنزلق الخطير. بعدما نفري بالخلق ، نقول : غفر الله لنا ولهم اتركوهم ؟! ثم توج هذه المسيرة بإمامة الناس في الصلاة ، قرابة ثلاثين سنة في مسجد ( الغانم )ببريده ، فلك ان تتخيل من التصقت جبهته بالمحراب ، كيف ستكون حياته ، وكيف سيكون بعد مماته ؟ ماهي اثار ذلك ؟ عرفت منه انموذج الصبر على الالم ، فقد كابد الام في القلب عدة سنوات ، لم اسمع منه شكوى قط ، وانقل لك نتيجة اخر محادثة بيني وبينه ، قبل ان يدخل العملية التي لم يعد بعدها الى الحياة بليلة واحده ، حيث قال لي بالحرف الواحد ، مخبرا عن نوع العملية التي سيجريها الجراح ، وهي عملية فتح للقلب وتركيب شرايين ، فكان يقول : الحمد لله انا بخير وطيب ، وكله عملية ( صغيرة وبسيطة ) وكان هذا منهجه منذ ان اصيب بهذا المرض ، لم اسمع منه تشكي او تذمر، بل على العكس انه كان دائم التفاؤل . احيانا نجد ثمرات منهجنا وسلوكنا في الحياة سلبا أو ايجابا ماثل امام اعيننا . فأول الثمرات التي جناها ابو فهد، ان من الله على ذريته بالصلاح والاستقامة ولا نزكيهم على الله وكلهم قد نجح في مسيرته التعليمية . وكانوا يتسابقون الى بره وخدمته . فقد تم خمسة من أبنائه حفظ القران كاملا ، تأمل ثمرات ذلك التي سيجنيها هو ، عندما يوضع على رأسه تاج الوقار يوم القيامة .. ( وعن بريدة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن وتعلَّم وعمل به أُلبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس ، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان : بم كسينا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن " . رواه الحاكم ( 1 / 756 ) .) كلما ارتبطنا بالمعين الرباني الصافي ، لا يحتاج احد بعد رحلينا ان ينقب عن اثارنا ليعلنها للناس . رحمك الله ابافهد واسكنك فسيح جناته ، ولم ارغب ان اذكر اسمه لمعرفتي به انه لا يرغب المديح في حياته ، وانا احترم رأيه بعد مماته . ولكن هي لفتات يسيرة ، اننا نستطيع ان نعمل لأنفسنا شيئا ... عبد الله العياده