قال بعض السلف ( من تتتبع الرخص تزندق ) ، هذه المقولة دخلت قاموس الحوارات العلمية في واقعنا المحلي ، وأصبح ضعفة طلبة العلم يستخدمونها سلاحا يشهرونه في وجه كل من خالفهم في مسألة علمية عليها جمهور العلماء ، فمثلا لو رجح عالم أو طالب علم في مجتمعنا المحلي مسائل عليها جمهور العلماء لكنها تخالف القول المشهور والمعمول فيها في مجتمعنا مثل قول الجمهور بأن من ترك الصلاة تهاونا وكسلا لا يكفر ، أو قولهم بجواز كشف وجه المرأة ، أو قول الجمهور بعدم وجوب صلاة الجماعة ، أو قول الجمهور بعدم حرمة الإسبال لعير خيلاء ،وغيرها من المسائل لقيل عنه إنه ممن يتتبع الرخص ، وهذا من الأخطاء الشنيعة التي ترتكب باسم الدين والغيرة عليه ،والقائل هنا أحد ثلاثة أشخاص ؛ إما أنه ممن يتبع الهوى بتعصبه لآراء أهل بلده ، أو هو ممن قل اطلاعه على أقوال أهل العلم ، أو هو من العوام الذين يختصرون الدين كله بما يعرفون من أقوال علماء ومشايخ بلدهم . إذن ما الذي قصده هذا العالم بمقولته ( من تتبع الرخص تزندق ) ؟ هذه المقولة من ذلك العالم فيها تجوز ؛ إذ إن الرخصة مصطلح شرعي لا يملك عالم من العلماء أن يرخص بشيء من أمور الدين ، ولا يملك الترخيص إلا الله جل وعلا ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )) ، وعليه فمن عمل بالرخصة الشرعية فهو متبع للسنة مأجور على ذلك وليس متزندقا . وإنما قصد ذلك العالم بمقولته شذوذات العلماء التي انفردوا بها وليس معهم دليل عليها وعُدَّت من أغلاطهم ، وليس كل ما انفرد به عالم من العلماء يعد شذوذا يقال لمن تبعه انه قد اتبع الرخص ، فثمة آراء فقهية انفرد بها أحد الأئمة عن بقية المذاهب ويبقى انفراده خلافا معتبرا ، ومن أمثلة ذلك الصلاة في معاطن الإبل انفرد الإمام أحمد بالقول بصحتها ، ولا تصح عند بقية المذاهب ، ومنها اقتداء المفترض بالمتنفل تصح يجوز في المذهب الشافعي ولا يجوز في عند بقية المذاهب ، فمثل هذه الأقوال التي انفرد بها بعض العلماء تعد خلافا معتبرا لا يعد الأخذ بها تتبعا للرخص إذا توصل اجتهاد طالب العلم إلى أنها الحق أو أخذها العامي إفتاء من عالم ، وإذا كان الأخذ بمثل هذه الآراء التي انفرد بها بعض العلماء لا تعد تتبعا للرخص ، فكيف إذن يكون الأمر بالأخذ بقول جمهور العلماء في مثل مسائل عدم كفر تارك الصلاة تهاونا وكسلا ، وجواز كشف وجه المرأة ، وعدم وجوب صلاة الجماعة ، وعدم حرمة الإسبال لعير خيلاء ، وغيرها من المسائل التي قال بها جمهور العلماء . وإذا كان ذلك كله لا يعد تتبعا للرخص – حسب المقولة المشهورة- فما هي الشذوذات التي يعد فاعلها متتبعا للرخص ؟ مثَّل الشاطبي للشذوذات التي لا يعتد بها في الخلاف ب( جواز ربا الفضل ، وجواز زواج المتعة ، وجواز إتيان النساء في أدبارهن ) ، ثم وضع ضابطا مهما أرى أنه مهم جدا أن يستحضره طالب العلم فضلا عن جمهور القراء ، حيث قال الشاطبي (( فإن قيل : فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمد أم لا؟ ؛ فالجواب : إن له ضابطا تقريبيا وهو أنه ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر ، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين ) الموافقات : 5 / 139-140 د سليمان الضحيان كاتب وأكاديمي سعودي [email protected]