اعتذر عن الكتابة عن الأمور الخطيرة والضخمة اعتذر عن الكتابة عن الأفكار العظيمة والملهمة للشعراء والمفكرين اعتذر عن الكتابة عن أسباب الحروب والتعصب والفساد اعتذر عن الكتابة بشكل فخم وبحروف مذهبة وبلغة صعبة اعترف أنني لا أحسن هذا النوع من الكتابة، لا استطيع أن أكتب عن أسباب هموم الإنسان، لكنني أستطيع أن أكتب عن هموم الإنسان أستطيع أن أحكي لكم التفاصيل الدقيقة للطريقة التي تدفع بها امرأة عربة طفل قديمة تجمع فيها العلب الفارغة التي تلتقطها من صندوق الزبالة، واستطيع أن أكتب عن التساؤلات التي تخطر ببالي عن هذه المرأة، من أين أتت، وإلى أين تذهب ومن الذي يتسلم منها هذه العلب الفارغة؟ يمكنني أن أحزن عليها وعلى التعب الذي تمارس به مهنتها، وأتعجب في ذات الوقت لعدم وجود طريقة أكثر حضارية لجمع العلب الصالحة للتدوير لكني لا استطيع مثلا ومهما حاولت أن ألبس عباءة الحكمة أو طربوشها واجلس لأنظّر عن أسباب اندلاع الحروب، أو أسباب انتشار الفساد، أو خراب البيوت، أو غياب الضمير أو أي مسألة فلسفية معقدة، أو سياسية مشتتة أو عقائدية مبهمة أكتب ببساطة عن الأشياء التي تشغل بالي، واعرف أنها تشغل بالكم، ومثلكم لا أفهم أشياء كثيرة، أو افهمها واعرف أنني لا استطيع أن أكتب عنها، لأنها أشد وضوحا من أن يكتب عنها. العناوين العريضة، البكائيات، الأفكار الكبيرة لا تغريني للكتابة وحين أحاول أشعر أنني أمثل، أنني كاذبة ومدعية، أن هذا الكون الضخم لا ينتظر مقالي كي يتعدل حاله لذلك اسمحوا لي أن أكمل الكتابة عن تفاصيلي الصغيرة تفاصيلكم الصغيرة الشوارع المكسرة التي كسرت سياراتنا، والمياه المقطوعة التي تذكرنا بأيام السقّا، والحر الذي لا تنفع معه المكيفات، والمدارس التي تعبنا ونحن نشكو من مناهجها، والخادمات اللاتي يهربن ولا نعرف من السبب في رواج تجارتهن ، عن تأخر الرحلات، والازدحام والجري لإكمال المعاملات، والسمك الملوث والصداع النصفي و و و و أشياء كثيرة ليس لها حل عندي، أنا فقط أكتب الأسئلة التي تثيرها هذه المواضيع في رأسي وربما رؤوسكم .