لقد ساهم الوقف في إبراز الوجه الحضاري للإسلام والمحافظة على الحس الحضاري والإنساني لدى المسلمين وإنمائه, وهو أمر لم يبلغه الغرب, في ذلك الوقت, بل كان يرفل في ثياب التخلف والظلمات التي أطبقت على الحياة في مختلف جنباتها. ونحن نستطيع أن نجد في حجج الوقف والواقفين في القاهرة وبغداد ودمشق والمغرب روائع في غاية الأهمية في رعاية المرضى وبناء المستشفيات والرفق بالحيوان ورعاية الطبقات الضعيفة مثل العمال والعاملين والعاملات في البيوت والنساء اللاتي يتعرضن للاضطهاد من أزواجهن. فقد وجدنا وقف الأسبلة والرباطات والتكايا، على الفقراء والمساكين, وكان لها أكبر الأثر في التكافل الاجتماعي في تلك العصور الزاهرة، فنجد الأمير نور الدين محمود –رحمه الله- يجعل أوقافًا للمرضى والضعفاء والأيتام في حلب وفي سائر البلدان الإسلاميَّة الأخرى. وكان بمدينة مَرَّاكش بالمغرب، مؤسسة وقفية تُسمى "دار الدُّقة"، وهي ملجأ تذهب إليه النساء اللاتي يقع بينهن وبين أزواجهن نفور وبغضاء، فلهن أن يقمن آكلات شاربات إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من نفور. ومن أعجب ما ذكره الرحالة ابن بطوطة "أوقاف الأواني"، إذ قال عن تجربة شخصية له: "مررت يومًا ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصَّحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم: اجمع شقفها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيد الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره، وهو -أيضًا- ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب. وقال أيضا عن أوقاف دمشق: والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها؛ لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يُعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير. بل إننا نجد حتى الحيوانات, لها نصيب من الاهتمام, وثم من وقف على الكلاب والقطط العمياء والمكسورة والجريحة, فالأمير "عبد الرحمن كتخدا" في فترة حكم الدولة العثمانية لمصر استخدم الوقف للإنفاق على بعض الحيوانات كالقطط؛ بتوفير الطعام الذي كان يقدم لها بعد صلاة العصر. وتعجب حينا ترى في غوطة دمشق, وهي من أجمل وأفضل الأماكن فيها كانت وقفا على خيول المجاهدين التي يدركها الكبر وتعجز عن الخدمة , فتترك في تلك الغوطة تأكل من ثمارها وشجرها وتشرب من مياهها النقية , حتى إذا نفقت دفنت بتقدير لدورها. وانتشرت المؤسسات الاستشفائية الوقفية في المغرب الأقصى، والتي كانت تقدم العناية الصحية لبعض الحيوانات كطائر اللقلاق الذي كان يُحمل إلى المشفى – كأي مريض آدمي- إذا أصيب بأذى. هذه بعض النماذج لما كانت عليها المجتمعات الإسلامية, من تقدم مبهر في مجال التكافل الإنساني, والعناية حتى بالحيوان, وهو الأمر الذي لا نكاد نذكره في تاريخنا, على الرغم من الحاجة الملحة والشديدة لإبرازه, لوقف حملات التشويه الممنهج للإسلام.